بحكم تنقلي بين عديد الوظائف والمهام تعدد من ساقني الحظ للعمل تحت رئاستهم. منهم الصالح ومنهم الطالح ومنهم جميعا استفدت. قليل من خلف جروحا لم تندمل، ولعله من حسن حظي، وحظوظ مرؤوسين عملوا معي من بعدهم، أنها لم تندمل. أعترف هنا، وربما للمرة الأولى، أنني بذلت من الجهد والمثابرة ما يكفي لمنعي من أن أقع ذات يوم في نفس الخطأ أو أرتكب نفس الجرم. أعترف أيضا، وبالتأكيد ليس للمرة الأولى، أنني مدين بكل حسنة التزمتها ونصر حققته لوالد قام بواجبه وأساتذة في الجامعة اهتموا بإرشادي ورؤساء عمل أخلصوا في عملهم خلقا وعلما وكفاءة ووطنية فكانوا نعم النموذج والمثال.
كنت في الثامنة عشر كثير التردد على مكتبة مركز الاستعلامات الأمريكي في حي جاردن سيتي. هناك أقمت علاقات طيبة مع العاملين المصريين وكلهم من الخبراء في علم المكتبات وتعرفت على المدير الأمريكي للمكتبة خلال واحدة من جولاته التفتيشية على أفرعها. تحدث فعلمت أني أثرت فضوله واستحسانه بما أقرأ وكيف أقرأ وبما أختار من أشرطة الموسيقى وبالعلاقات التي أقمتها مع العاملين بالمكتبة في مختلف التخصصات ومن مختلف الأعمار. تحدث إلى أن وصل إلى غايته وهي عرض بالعمل بعض الوقت بالمكتبة مسئولا تحت إشرافه المباشر عن قسم الحيازات، وهو القسم المسئول عن اختيار وشراء الكتب والدوريات الجديدة على ضوء الميزانية المتاحة.
***
تمنيت، وأنا في الثامنة عشر، أن أتعامل مع المرؤوسين عندما أتقدم سنا ومرتبة بـنفس أسلوب المستر (ل) في التعامل معي وزملائي في العمل. تعلمت كيف وضرورة أن أبتعد بالسياسة الداخلية عن أجواء العمل، رأيته حريصا على الاهتمام بمشكلاتنا الشخصية إذا نحن سمحنا له بذلك. راقبت سلوكه في حضرة رئيسه في العمل، أقصد السفير الأمريكي، أذهلني أنهما يتنادين بالاسم الأول لكل منهما، وهو ما استبعدت إمكان حدوثه في ظل ثقافتنا المحافظة. أذهلني في الوقت نفسه أن كثيرا ما حلت هذه الصراحة محل الدفء الذي نفتقره في علاقاتنا بالأجانب. كبيرا أيضا كان اهتمامه بمستقبلي الأكاديمي وحرصه على تنمية آفاق تفكيري وأحلامي. تعلمت منه أهمية أن ينتقل كرئيس من مكتبه إلى حيث كانت مكاتبنا نحن المرؤوسين والاستماع إلى اقتراحاتنا في شأن تحسين ظروف العمل. لا أتذكره غاضبا ولا كاذبا ولا منافقا. أتذكره دائما صادقا وصديقا. أتذكره مباشرا وواضحا وواثقا. أظن أنني حاولت في مستقبلي التحلي بصفة أو أخرى من هذه السمات والصفات. أفلحت حينا وأخفقت أحيانا ولكن لم أستسلم لأي إخفاق.
***
تغيرت الظروف وتغيرت طبيعة العمل وتغير الرؤساء وتغيرت السمات والصفات. عينت وكلفت لأعمل مع رئيس من بلدي لا يميل بحسه ونشأته وأجواء دراسته وعمله السابق إلى اعتناق سمة أو صفة من هذه السمات والصفات الطيبة. أتوا به إلى هذه الوظيفة وهذا المكان تحت انبهار عابر وّذهبوا بي إليه عساي أتعلم. تعلمت شاكرا ألا أكون يوما في العمل مثل هذا الرئيس، وألا أكون في شكله ولا في طباعه ولا في أخلاقه. تعلمت الشيء الأهم، تعلمت أن أقول لرئيسي إنه على خطأ، وإنني وأنا أصغر مرؤوسيه وأحدثهم في المكان، لن أسير معه على طريق الخطأ.
الرئيس التالي في حياتي الدبلوماسية كان مختلفا عن سابقه في كل السمات والصفات وأقرب فيها إلى أول رئيس في حياتي العملية. لم يكن له باع في الدبلوماسية ولكن علمته تجربته وتربيته الجرأة والقدرة على المواجهة وقول ما اعتقد أنه الحق وإن على خطأ وعدم إدراك كاف لطبيعة هذا العمل الذي ارتضاه لنفسه أو فرضته الظروف. كان أمينا في نقل الرسالة مرفق بها رأيه داعيا رؤساءه في القاهرة لرفضها أو قبولها والبناء عليها. كانت مصر كلها في أوج الاستعداد لبناء سد عالي فصرنا ونحن في آخر العالم خبراء ومهندسين وحمالي أسمنت وعملاء نتقصى تفاصيل الأسطورة الصينية في بناء السدود بأقل تكلفة لننقلها لمصر.
***
عملت مع آخر وفي مهنة أخرى. معه وفيها اقتربت جدا إلى قلب بلدي وقلوب أخرى. تعلمت منه أن “المعلومة” سلاح وثروة وأن التعامل معها فن من أرقى الفنون، وأن تجميع مفرداتها وتحليلها علم واسع، وأن العيش فيها وعليها مهنة هي بين أقدم المهن. تعلمت الكتابة لقارئ غير متخصص، وغير ملم أو مهتم بدقائق السياسة أو الاقتصاد أو القانون. تعلمت أنني لو شئت إقناع متخصص أو متبحر فليكن عبر كتابة مختلفة وهي ليست مسئوليتي المباشرة على كل حال. تعلمت أهمية أن أحاول قبل أن أمسك بالقلم أن “أحيّد” غضبي، وأحاول بعد الكتابة وقبل النشر أن أدفع به إلى زملاء، هم أيضا مرؤوسون، أثق بنضج تفكيرهم وعمق خلفياتهم وتنوع مذاهبهم الفكرية. تعلمت جديدا في أصول التعامل مع رؤساء الدول. تعلمت أن الرئيس، أي رئيس، لا بد وأنه سوف يحترم الضيف الذي يمتلك أكبر ثروة ممكنة من المعلومات. هو الضيف أو الزائر الذي يستحق تزويده أو تكريمه بالمعلومة النادرة أو الغريبة أو المبهرة.
***
لم يذهب سدى ما تعلمت. أشعر بالرضا، ففي ظني وتقديري أنني استفدت من تنوع رؤسائي وتجاربي عبر مختلف مسيرات حياتي. قضيتها حياة غير مملة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

