المشهد تاريخي بكل تفاصيله: الملك المذهب الآتي من ارض النبوة والوحي والرسالة الاسلامية، في حضرة ” القيصر” الجديد وارث الامبراطورية المقدسة بعد “تحريرها” من الحكم الشيوعي وعودتها إلى احضان الكنيسة الارثوذكسية بكل قصورها ـ المتاحف المتوهجة بتاريخ الامجاد الغابرة.
يدخل الملك العجوز متوكئاً على عصاه لتعينه على المشي بخطوات متثاقلة إلى القاعة المبهرة برياشها الامبراطورية، فخر الصناعة الملكية الفرنسية، فيعجزه العمر عن تأمل ابهة الملك، وهو البدوي الذي تعرف ـ مؤخراً ـ إلى الرياش الفخمة التي لم تكن عائلته قد اضفت اسمها على ارض النبوة فحكمتها بالشعار الاسلامي وقد جلله السيف باعتباره اساس الحكم.
يتحرك الملك الذي بالكاد يرى طريقه إلى قاعة الاستقبال الامبراطورية الموشاة بالذهب والبلاتين والتحف التي لا مثيل لها في أي مكان.. ويعجزه ضعف نظره عن الاستمتاع بوهجها وعبقرية صناعها، بينما الامبراطور الرياضي الذي يلعب في السياسة بقواعد الكاراتيه يغمره بابتسامة ترحيب تحجب الاشفاق وتظهر الحفاوة التي تليق بالقاعة ـ المتحف التي تقصد أن يستقبله فيها لإبهاره بتاريخ القياصرة الذين حكموا ثلث العالم وخلفائهم من “الرفاق” الذين لم تكن الشمس تغيب عن إمبراطوريتهم الكونية.
ينتظم الوزراء والمستشارون في طابورين على يسار الضيف الكبير ويمينه، بينما يصحبه رجل “الكا جي بي” و”الرفيق” السابق، والامبراطور ولو بلا لقب بوتين، إلى حيث يجلسان خلف طاولة مذهبة الاطراف، تمهيداً لبدء المحادثات بخطابين لم يكن متوقعاً أن يسمعهما العالم في هكذا احتفال فخم قبل سنوات قليلة..
لا ضرورة لجلسات المحادثات الطويلة ونبش الخلافات العقائدية المعقدة والتي صارت من الماضي: الذهب اصفر واسود وابيض وبين بين أقوى من العقائد.. والشراكة في النفط والمصالح تتغلب على الخلافات الفكرية، وحتى الدينية.
كل شيء جاهز للتوقيع: صفقات السلاح الضخمة بالصواريخ المهولة عابرة القارات، والتوافق على تسعيرة موحدة للنفط، الاساس المتين للعلاقة الجديدة التي تحاول تعويض ما فات من ارباح، ومن بعد على التصنيع وكل ما لا تستطيع (او لا تريد) أن تقدمه واشنطن للحليف مذهب الولاء.
لقد حلت المشكلات جميعاً في الفترة بين زيارتي الامير ـ الابن، ولي العهد، محمد بن سلمان والملك ـ الاب الذي يكاد ينجز نقل الارث الثقيل إلى نجله الثالث أو الرابع او الخامس، لا يهم انه هو من اختار فكان له ما اراد، وازيح ولي العهد الاول والثالث ليستقر العرش لمن قرر خادم الحرمين أن يكون.. فكان.
كذلك فقد تم دفع “الدية” للولايات المتحدة الاميركية، خلال زيارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب إلى المملكة، والتي تقصد أن تكون الأولى في جدول تحركه خارج بلاده.
لقد تم توزيع المليارات بالعدل والقسطاس: موجبات الحماية المرتكزة إلى الصداقة التاريخية والمصالح العظمى الاستراتيجية، جرى ويجري دفعها لواشنطن من غير تلكؤ بمئات المليارات من الدولارات.. وهذه صفقة حرة تعقد بعشرات المليارات ايضا مع الاتحاد الروسي الذي برئ من تهمة الشيوعية والالحاد الذي يتجاوز الكفر..
المال عصب السياسة، وطالما قد تم التفاهم والتنسيق في مجال اسعار النفط، فكل ما عدا ذلك هين: لقد تلاقى المنتجان الاعظم للنفط (وان كان لروسيا السبق في الغاز، وهي الأولى في انتاجه وتصديره)..
…وماذا لو “أخذت” روسيا مكان الحليف للخصم الشرس للمملكة بشار الاسد؟ انها وسيط ممتاز لإعادة العلاقة بين البلدين اللذين طالما كانا حليفين، قد يختلفان احيانا لكن الخلاف لا يفسد الود بين الاشقاء المرتبطين بوحدة المصير.
لقد كانت السعودية تواجه روسيا، قبل حين، في الموقف من بشار، متكئة على اشتات المعارضات السورية التي كلفتها كثيراً من دون أن تحقق مثل ما حققته “داعش” في العراق مثلاً.. وآن الاوان، طالما توفر الوسيط الصالح لاستذكار “الاخوة العربية” ووحدة “القضية المقدسة” في فلسطين، والجنوح إلى الصلح طالما تهاوت اسباب الخلاف والشقاق بالضربات الجوية عن بعد لأشتات المعارضات السورية المسلحة التي فرقتها الخصومات والخلاف على “الشرهات” ايدي سبأ.. وطالما قد توفر “الوسيط المؤهل” لعقد صفقة المصالحة على قاعدة “لا غالب الا الله” فليكن التمثل بالحكمة المغاربية “الله غالب” والحمدلله من قبل ومن بعد.
للبترول سحره الخاص. انه اقوى من الاخوة، فكيف إذا اجتمع مع الغاز ومع الصناعة الحربية الثقيلة: ألم تر إلى الصواريخ الروسية كيف انطلقت من البحر الاسود، او بحر قزوين، او البحر الابيض المتوسط لتضرب فلول “داعش” و”النصرة” في دير الزور والبوكمال وشرقي حمص فتجعلها أثراً بعد عين؟!
ثم أن روسيا ـ بوتين وسيط صالح حيث لا يقدر الاميركيون: مع إيران، مثلاً، حيث يمكن للتفاهم معها وقف النزيف السعودي ـ الاماراتي في اليمن الفقير، مهيض الجناح، والتي تتهدد الكوليرا أكثر من مليون من ابنائه، لا سيما منهم الاطفال.
لقد سقطت العقائد امام الذهب. المصالح تجمع بين المختلفين دينا وقومية واصولاً. روسيا لم تعد شيوعية، والمملكة ازالت بيوت الرسول والخلفاء الراشدين في مكة المكرمة لتوسع المدى الحيوي للكعبة المشرفة ليتسع لملايين الحجاج الذين يدرون ذهباً. الدين بركة. وكذلك فعلت روسيا مع قيصرها الجديد، فالماضي الامبراطوري يدر، هو الاخر، ذهباً.
أن موسكو ـ بوتين متهمة بالتدخل، لمصلحة ترامب، في الانتخابات الرئاسية الاميركية.. فاذا كان النفوذ الروسي قد اخترق اسوار واشنطن فلماذا تُبقي الرياض على السور الحديدي مع الاتحاد الروسي الذي طلق الشيوعية ثلاثاً وصار من أكبر تجار النفط والغاز والسلاح في العالم. الشراكة ممكنة، بل وضرورية، خصوصاً وان واشنطن قد نالت أكثر مما تستحق خلال زيارة ترامب: أكثر من أربعمائة مليار دولار عدا الهدايا لتي بملايين الدولارات؟!
في الرياض، لا يستطيع ولي العهد الامير محمد بن سلمان أن يخفي اغتباطه بهذا النجاح الدبلوماسي الجديد، تاركاً لوزير خارجيته أن يشرح لمضيفيه الروس التقاليد البدوية لشرب القهوة الملكية بالفناجين المذهبة، وكيف يهز الفنجان تدليلاً على الاكتفاء منها.
أن الدنيا مفتوحة على مصراعيها امام الامير الشاب الذي ازال له والده منافسيه جميعاً، وكاد يلبسه التاج قبل أن يغادر الحياة: انه ضيف مكرم في واشنطن ـ وهو من فتح موسكو، ثم أن الصين واليابان دول والغرب جميعاً مفتوحة امام وارث العرش المذهب والمصفح بالآيات القرآنية، منعاً للحسد.
ثم أن العهد الجديد في المملكة التي لم يحلم بمثلها الخلفاء الراشدون يجد الابواب جميعاً مفتوحة امامه: لقد أدّب منافسيه من ابناء الاعمام، فخلع الثالث ثم الاول، وهكذا بات ملكاً مطلقاً، خصوصاً وانه أعاد توزيع اقرانه من ابناء عمومته الشبان امراء على المناطق جميعاً، فاطمأن بالاً إلى أن ليس له منافس، وان تآمر “الاخوة ـ الاعداء” عليه مستحيل.
وقبل ذلك وبعده فان المملكة المذهبة بلا منافس عربي (او اسلامي) على زعامة الأمتين العربية والاسلامية.. مصر مثقلة بفقرها الذي يأخذها إلى الجوع ويسهل استمالتها بالذهب، والعراق مشغول بهمومه الداخلية الثقيلة، وآخرها “الانفصال الكردي” الذي قد يأخذه إلى الاحتراب الداخلي، وسوريا غارقة في دمائها، فلو انتهت الحرب فيها وعليها غداً فإنها تحتاج إلى عشر سنوات، على الاقل، حتى تعود إلى ما كانت عليه.. اما دورها القيادي (او حتى المشاغب) فقد بات صعباً عليها أن تمارسه لأنها ستكون مشغولة بنفسها عما حولها لسنوات طويلة.
ليبيا زالت عن الخريطة، وجارٍ البحث عن اجزائها المتناثرة،
والجزائر تترقب حالة رئيسها فوق كرسيه المتحرك،
والمغرب مشغول بذاته عن كل من وما حوله، الا الصحراء..
المسرح العربي خالٍ، وبوسع المملكة أن تتقدم لتتصدر من تبقى من العرب والمسلمين … حتى اشعار اخر!
المملكة مطلوبة ومقصودة ومرغوبة من الجميع: واشنطن وبرلين، باريس ولندن، بكين وطوكيو، وها هي موسكو تفتح قصورها الامبراطورية امام الملك الذي يتوكأ على عصا شيخوخته ويتقدم في جنباتها مبهوراً او اعشى ينظر فلا يرى وان كان يدرك المقصود ببصيرته قبل بصره؟