لنتفق، بداية، أن ما حدث في منطقة برج أبي حيدر في بيروت غروب يوم الثلاثاء الماضي كان أمراً خطيراً بكل المعايير، وأخطر ما فيه أنه لم يكن متوقعاً، وأن أطرافه المباشرين وجدوا أنفسهم، فجأة، في قلب العاصفة، ثم صاروا ضحاياها، ومن دون أن تتوفر لهم فرصة الخروج منها ومعالجة الخلل الذي فتح أمام الجميع أبواب جهنم.
ولنتفق، ثانياً، أن كل المقيمين في بيروت (وضواحيها)، سواء أكانوا من أبنائها «الأصليين»، أم ممّن قصدوا إليها فاستقروا فيها جيلاً بعد جيل، يعشقون هذه العاصمة ـ الأميرة التي نهلوا العلم في معاهدها ووجدوا الرزق في أرجائها وصارت لهم مصدر حياة، يرون أنفسهم أهلها، ويحرصون عليها لأنها مصدر فخرهم، بدورها السياسي ـ الثقافي ـ التنويري، ثم إنها قد باتت مدينتهم فأسهموا في نهضتها وفي إعمارها وصارت حاضنة آمالهم في التقدم والتطور والاتصال بالعالم.
ولنتفق، ثالثاً، أن لا أحد يمكنه المزايدة على الآخر في الحرص على بيروت وأمنها، ما داموا يسكنون متجاورين، وأحياناً في العمارة ذاتها، وقد يعملون في الإدارة ذاتها أو في الشركة ذاتها، ويسلكون ـ غالباً ـ الطريق ذاتها، ويرسلون أبناءهم إلى المدارس والكليات والمعاهد والجامعات ذاتها، ويستشفون ـ رجالاً ونساءً وأطفالاً ـ في المشافي ذاتها ويعالجهم الأطباء ذاتهم… وبالتالي فإن الضرر، متى حل، ولأي سبب، لن يصيب البعض من دون البعض الآخر بل هو سيشمل الجميع. إنهم، بقوة الحياة، شركاء مصير في مدينتهم كما في وطنهم، مهما اختلفوا في وجهات النظر أو في الموقف السياسي. فالمدينة أم، وهم جميعاً من أبنائها، وأمنها وسلامتها شرط حياة لهم جميعاً، المتحدّر من جذور عائلاتها القديمة، وهي متعددة المصدر ما بين المغرب ومصر وأطراف السلطنة العثمانية في البلقان، إضافة إلى عرب الفتوحات ومن جاء منهم قبل ذلك، أو الوافد إليها بعد إنشاء «الكيان» من «الأطراف» أو «الملحقات» فضلاً عن «جبل لبنان».. وبعض الغرب القريب.
ولنستذكر، بعد ذلك، ما جرى لبيروت وأهلها، وما جرى فيها ومن حولها خلال السنوات الخمس المنقضية على جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري: لقد بدّل أفرقاء سياسيون مواقعهم في غمضة عين، وانتقلوا من حضن «الوصاية السورية» إلى أحضان «الرعاة الجدد» المتعددي الجنسية وإن ظلت الوصاية الأميركية هي الغالبة… وكان التبديل شرطاً لتفويضهم باستثمار الاغتيال تمهيداً لاحتلال مواقع في العهد الجديد، وكأنهم من الورثة! وهكذا تصدّروا الصفوف، وهم الذين منعهم من دخول منزله في حياته، تحت راية الثأر، ورفعوا أصواتهم بإعلان الحرب على سوريا ومن والاها أو صادقها أو زار دمشق للاستشفاء أو بعث بأبنائه للدراسة في مدارسها أو في جامعاتها مجاناً!
وعلى امتداد هذه السنوات الخمس، الطويلة، تمّ احتكار السلطة والتفرّد بالقرار الرسمي. استبدلت الوصاية السورية بوصاية دولية بعنوان أميركي وتمّ تسليم «القرار الوطني المستقل» لإدارة جورج و. بوش ووزيرته السمراء كوندليسا رايس وسفيرها في بيروت، وتوفرت الظروف للاندفاع قدماً في تنفيذ القرار 1559 في مجلس الأمن، أي تدويل لبنان بهدف محدّد: القضاء على المقاومة فيه بعد «تحريره» من الوصاية السورية.
وعلى امتداد هذه السنوات الخمس الطويلة تمّ التشهير بكل القوى الوطنية والقومية والتقدمية، ومداورة بالمقاومة المجاهدة من أجل التحرير، وصنّف هؤلاء جميعاً كعملاء لعهد الوصاية، وأعيد الاعتبار إلى طابور من القتلة (بعفو خاص) والعملاء الذين خدموا الاحتلال الإسرائيلي مباشرة، أو عاونوه ـ كمخبرين ـ على أهلهم وبلادهم… وليس ما تكشّف من شبكات لعملاء إسرائيل مؤخراً إلا قمة جبل الثلج، والمخفي أعظم!
وعلى امتداد هذه السنوات الخمس الطويلة فُتحت الدولة بمؤسساتها جميعاً أمام السفارة الأميركية (والفرنسية) وأمام الموفدين الأميركيين بل الغربيين عموماً، فصاروا أصحاب رأي بل شركاء في القرار في مسائل جوهرية، وأحياناً في قضايا مصيرية تتصل بهوية لبنان ودوره.
هل يمكن السؤال عن «تهريب» التحقيق في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري إلى مجلس الأمن الدولي من فوق مؤسسات الشرعية في لبنان، وعما رافق لجان التحقيق ثم أعمال المحققين الدوليين، وفيهم «المخبر» المرتبط بدوائر المخابرات الأميركية، وعن «شهود الزور»، وعن اعتقال من اعتقل بلا مبرّر ومن طورد وأهين في كرامته بغير وجه حق…
وهل يمكن السؤال عن الإرهاب الذي مورس ويمارس باسم لجنة التحقيق الدولية والمدعي العام فيها، تارة عبر «تسريبات» تنشر وتعمّم في مختلف أنحاء العالم، وطوراً حول القرار الظني وما سوف يتضمن من أسماء بكل ما يشكّله من ابتزاز لأطراف سياسية ذات أدوار حاسمة في تاريخ لبنان الوطني، كمجاهدي المقاومة؟
… وعلى امتداد هذه السنوات الخمس صار كل من يوجّه نقداً إلى «العهد الجديد» عدواً «للبنان أولاً»، يريد إهدار دم الشهيد رفيق الحريري وإخفاء الحقيقة، مطعوناً في وطنيته ومداناً سلفاً بتهمة التستر على القتلة أو ربما المشاركة في الجريمة النكراء.
… وعلى امتداد هذه السنوات الخمس الطويلة أطلقت موجات من التشكيك بالمقاومة والتساؤل عن جدواها، سرعان ما ارتفعت وتيرتها بعد حرب تموز المجيدة بالانتصار الوطني ـ العربي فيها، لتغدو مطالبة علنية بنزع سلاح المقاومة، والعودة إلى نغمة تحييد لبنان… الإسرائيلية!
[ [ [
ما حدث في برج أبي حيدر كريه ومستنكر ولا يمكن تبريره إلا عبر توصيف الوضع القائم في لبنان، وحملات التشكيك اليومية بالمقاومة، والاتهامات المتواصلة التي تمس شرفها عبر محاولة التلميح إلى علاقة ما لأفراد منها بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد.
لكن آخر من يحق له توزيع شهادات الإدانة والبراءة هم أولئك الذين عملوا ليلاً نهاراً على استثارة الغرائز وتحريض اللبنانيين بعضهم ضد البعض الآخر، والتهويل عليهم بمخاطر الفتنة وهم يعملون على إيقاظها ليلاً ونهاراً باستعداء البعض ضد البعض الآخر وتخويف كل طرف بالآخرين الذين يعملون «للهيمنة واحتلال المدينة» المفتوحة، عبر التاريخ، لكل قاصد…
ومن طرائف هذه الأيام أن تطلق الدعوات لإعلان بيروت مدينة منزوعة السلاح، وبين مطلقيها من لم يكن لهم أي وجود سياسي من دون السلاح (وهو قد كان في بعض الفترات إسرائيلياً… ولعله ما زال)… وبينهم أيضاً من أنشأ ميليشيات لا يحتاجها، ودرّب «كادرات» في أكثر من بلد عربي.
وبين طرائف هذه الأيام أن يتولى الدفاع عن بيروت من اجتهد لاحتلالها عسكرياً، أيام كان في مركز الحكم، فصدته وأفشلت خطته بالتكاتف مع الضاحية النوارة.
[ [ [
هذا لا يعني، بأي حال، أننا نحاول تبرير الاشتباك المفاجئ والمخيف بدلالاته في برج أبي حيدر، أو التخفيف من فداحة الفلتان الأمني الذي رافقه فوسّع رقعته وامتد بنيرانه إلى أحياء في العاصمة حتى لامست مراكز دينية وبيوتاً ومتاجر لأناس بسطاء يحبون بلادهم وأهلها ولا يريدون بها أو بهم شراً.
وهذا لا يعني التسليم بالاحتكام إلى السلاح في أي خلاف فردي، أو استخدام السلاح للترويع والإرهاب والسلب والنهب.
أمن بيروت مصلحة وطنية عليا والكل شركاء في المسؤولية عنه.
إن بيروت مصدر شرف للمقاومة وأهلها، ولكل العرب وعشاق الحرية في العالم.
وعلينـا جميعاً أن نحمـيها. وأول شــروط الحماية الوحدة الوطنية والاتفاق ـ مرة وإلى الأبد ـ على تحديد «العـدو» ونبذه ومقاومته، وتأمــين الوطن بالاتــفاق على هويتـه ودوره… وعلـى أن أهـله جميـعاً هم أهلـه.