هدأت السيارة سرعتها بأمر الإشارة الصفراء لتتوقف مع غيرها من السيارات المتدفقة من ميدان الدقي متوجهة إلى جامعة القاهرة أو إلى الجيزة. هنا عند هذا المفترق من طرق الضاحية كان مكان عملي. أتوجه إليه في الصباح الباكر أنا وطفل آخر، كلانا يمسك ببقايا فوطة صفراء رطبة يمسح بها زجاج السيارات، وبقايا فوطة أخرى أقل رطوبة لتلميع ما اتسخ بسببنا. لم يسمح لنا المعلم بهذه الوظيفة إلا بعد أن بلغنا من الطول ما يسمح لأذرعتنا القصيرة وبعد الوقوف على أطراف أصابعنا بالوصول إلى مساحة مناسبة من زجاج السيارات. على كل حال اعتبرنا هذا التكليف ترقية لنا بعد سنة أو أكثر من عمل شاق حين كنا نسرح منذ الفجر في الشوارع نستجدي المارة ونعود عند اقتراب الليل ومعنا مخبأة في أركان وثنايا أجسادنا الهزيلة “غلة” اليوم. نعود لنجد في انتظارنا على باب “العشة” عند سفح الجبل يد المعلم الخشنة والقذرة يمدها ليبحث بها في أنحاء الجسد المنهك والمستسلم عن بغيته من القروش. لا غرض أو رغبة في نفوسنا سوى النوم، حتى الطعام البسيط الذي كان ينتظرنا كنا نتناوله كتكليف وأمر يجب أن ينفذ. لا يحق أن نعترض أو نطلب، له وحده حق القرار وله عيون تراقبنا خلال النهار والليل؛ بالنهار تبلغه عن حماستنا وإهمالنا وإهدار قرش أو أكثر على رغيف خبز نشتريه من الفرن القريب من موقعنا ونقسمه علينا، وتبلغه بالليل عن كل اختلاط يحدث بين صبيانه وبناته أفراد كتيبته المقيمين والمقيمات في “العشة”.
- • •
تدربت خلال هذه المهمة على فهم شخصيات الأغراب، أقصد الزبائن الذين نتعامل معهم في الشارع. بعضهم صاروا من الزبائن الدائمين ومنهم أساتذة في الجامعة وطلاب أثرياء يملكون سيارات، وبالمناسبة كان هذا الصنف الأقل شحًا في التصدق علينا. كنا وزميلي نتسابق على زجاج سياراتهم ونتبادل معهم حديثًا في الغالب مبتورًا بسبب تدخل عسكري المرور، أو أبواق الاحتجاج من سيارات الصف الثاني، أو تفلت الزبائن من شبكات “الزن” والإلحاح التي تفننا في نسجها. أظن أنني صرت خبيرة في قراءة العيون التي كانت تلاحقنا؛ إما بأصناف شتى من المبالاة والفضول، وإما بالقرف من قذارتنا، وإما بالإشفاق على حالتنا. عيون أخرى كانت تتهرب حرجًا أو تأسفًا من لقاء نظراتنا المتوسلة. أعترف بأنني ارتكبت أكثر من مرة ما كان المعلم يصنفه جرمًا يستحق أشد العقاب، كنت إذا تكرر مرور سيدة أو طالبة رحيمة الصفات أسارع الركض نحوها لا لشيء سوى الرغبة في تبادل تحية العرفان أو الشوق والحديث عن الأحوال. كان محقًا هذا الرجل الشرس، ففي إحدى هذه المرات طلبت مني زبونة “صديقة” أن ألحق بسيارتها عند انحناء الطريق على سور كلية الفنون. بالفعل وبدون تردد تركت موقع عملي المزدحم ساعتها بالسيارات المتوقفة دائمًا تنفيّذا لأوامر الشرطي الحنون علينا غالبًا، وركضت نحو سيارتها التي التزمت جانب الرصيف ثم توقفت في انتظاري. خلال ركضي لمحت نظرة على وجه الشرطي تحمل معنى التأنيب أو التحذير أو كلاهما معًا. ابتسمت للشرطي ابتسامة الواثقة بنفسها وتابعت ركضي نحو السيارة وقد انفتح أحد أبوابها. تجاهلت الباب المفتوح وتوجهت مباشرة ناحية الباب الملاصق لمقعد القيادة. هناك انتظرت نزول الزجاج وقد أُنزل بالفعل بعد قليل. عندئذ نطقت بكلمات لم أتعود عليها. قلت “صباح الخير يا ست هانم”. ردت بتحية مناسبة ثم قالت إنها تريد أن أجد الوقت الكافي لتبادل حديث مهم بيننا. لم أنطق بحرف، وأظن أنها قرأت في نظرتي أشياء كثيرة. راحت تطمئنني. طرحت شروطًا مثل أن يجري هذا الحديث في موقع أبعد قليلاً، وفي وقت غير أوقات الذروة، وفي سيارة محركها ساكن، وأن لا تأتي وفي صحبتها شخص آخر. اتفقنا.
- • •
وقع اللقاء وبالفعل التزمت الشروط جميعًا. افتتحت الحديث بالقول أن لديها عرض أو فكرة تريد طرحها، ولكنها لن تطرحها حتى تسمع مني حكاية حياتي كاملة وبالصراحة المطلقة، وأن أبدأ هذه الحكاية بالإجابة عن سؤال محدد ومهم. سألت عن الأشخاص في حياتي الذين أحبهم ويحبونني. أجبت فورًا بسؤال يقابل سؤالها، سألتها “إيه هوه الحب يا هانم؟!، عشت أسمع عنه ولكني حتى هذه اللحظة لم يحدث أنني تعرفت عليه، أو عرفني به أحد، أو شعرت به. سيدتي أنا لا أعلم شيئًا عن مجيئي إلى هذه الدنيا. ولدتني امرأة في مكان ما. لا أحد دلني عليه أو عليها. لا أحد يذكر أمي. قيل لي أن الحب يبدأ مع الأم عند الرضاعة، قلت لا أذكر أنني رضعت، ولكن أيضًا لم أسمع من أحد أنه رآني أرضع أو أن امرأة بعينها تولت مهمة إرضاعي. خلاصة الأمر يا هانم أنه في حياتي لم توجد امرأة أبادلها أية مشاعر ومنها ما تطلقون عليه اسم الحب، ولم يوجد أخوة وأخوات.
ما أذكره جيدًا حسب ما قيل لي أن عصابة اختطفتني وأنا طفلة وقامت بتربيتي وتنمية مواهبي لأصير وأنا في الرابعة من عمري فتاة تجيد فن البهلونات. باعتني العصابة مع بنات وصبيان آخرين لفرقة تؤدي أعمال السيرك وتجوب القرى والنجوع. بالنهار كنا نتدرب ثم نمارس ألعاب السيرك أمام القرويين مقابل شرائح أنواع شتى من الفطير والخبز والجبن القديم وقروش معدودة، كانت الفرقة تعتمد على عملاء في الريف يبلغونها بمواعيد عودة الحجاج والأفراح ومناسبات طهور الصبيان وختان البنات، ثم تجرى مفاوضات مباشرة مع أصحاب المناسبة وبعد الاتفاق تجرى مفاوضات أخرى مع الغوازي وفرق الموسيقى والغناء الشعبي المتجولة مثل فرقتنا بهدف التنسيق من أجل تقديم عمل متكامل لمناسبة معتبرة.
ذات يوم بعد عمل في السيرك والأرياف استمر سنوات لا أذكر عددها استدعاني صاحب السيرك ليبلغني عن أمر حان حسب رأيه وقت اتخاذ قرار بشأنه. قال إنه يتحدث معي وهو في موقع الأب الذي حرمت منه، وأضاف أن وجودي في السيرك أصبح محل نظر لمصلحتي ومصلحة السيرك. بدا له ولآخرين في السيرك أن تطورات جسدي في السنة الأخيرة صارت تلفت نظر المتفرجين والعاملين في السيرك بشكل يهدد سلامتي وانضباط العمل في فرقة كثيرة التنقل وتضم رجالاً وشبانًا من كافة الأعمار. سألته إلى أين أذهب وهو يعلم كما أعلم أن لا أحد يهتم بي، أجاب بأنه سوف يأخذني معه إلى القاهرة فهناك من يعرفه جيدًا ويعرف عنه أنه يدرب مثيلاتي من البنات ويقدم لهن المأوى والمأكل. أنهى حديثه بالقول إنه مع هذا الرجل يستطيع أن يطمئن على حياتي ومستقبلي. هكذا صرت بالشارع أعمل مع مراهقين ومراهقات في مثل عمري لا أتفوق عليهم إلا في مهارة القفز من حافلات وقطارات وسيارات تتحرك، وكفاءة في تسلق الحبال والمشي عليها، وقدرة على الصمود في الجوع لفترة أطول. هذه حكايتي، هل عندك مشروع إضافة لها. أرجو أن يكون متناسبًا مع خبراتي وتجاربي”. ضحكنا معًا قبل أن تخبرني بالأمر الذي استدعتني من أجل إبلاغي به.
- • •
قالت، تعالي معي. سوف آخذك إلى مدرسة تقيمين فيها تتعلمين حرفة والكتابة والقراءة وأقرب شيء ممكن إلى الحب العائلي الذي حرمك منه المجتمع. سوف تقيمين في المدرسة وتأكلين ثلاث وجبات وهناك سوف يغسلون لك ملابسك وتنامين مع بنات، فالمدرسة لا تأوى إلا البنات. لن تقابلي أشخاص من نوع المعلّم الذي يأويك مقابل عمل عشرين ساعة وخدمات أخرى ستعفيك المدرسة من زلاتها وأضرارها الجسدية والنفسية. سوف تجدين في انتظارك طبيبًا يكشف عليك ويتعرف هو والمدرسة على أمراض احتلت جسدك أو أعضاء فيه، ويتولى والممرضات علاجك منها. لن تندمي يا فتاتي إذا وافقت على الذهاب معي إلى هذه المدرسة أو مأواك الجديد في الوقت الذي تختارينه.
- • •
شكرتها. مدت ذراعاها لتحتضني قبل أن أنزل من السيارة. نزلت. جلست على جانب من رصيف بعيد عن موقع شرطي المرور وعن زميلي الذي يعمل في الناحية المقابلة لناحيتي في الشارع. رحت أفكر وأفكر وأفكر. عند الليل عدت وزميلي إلى العشة عند الجبل. ذهبت مباشرة إلى حيث جلس المعلّم يسحب أنفاسًا من الشيشة ويعيد إطلاقها دخانًا كثيفًا كريه الرائحة. جلست أمامه بعد استئذانه طبعًا لأطلب منه تكليفي بموقع آخر بعيد كل البعد عن موقع الأورمان وكل مواقع الدقي والجيزة. لم يسأل عن السبب ولم أتطوع به.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق