لا بد من الحديث عن نهاية الجنس البشري. عند التفكير في أن ما هو موجود من الأسلحة النووية لدى دول عديدة يكفي عدة مرات للقضاء على سكان الأرض. ربما يحصل الأمر عن طريق تحويل الجنس البشري الى شيء آخر، الى قطعان الفرد فيها دون مرتبة الحيوانات في المعرفة والذكاء والعقلنة. نخبة تحكم البشرية عن طريق ما يسمى وسائل الاتصال الاجتماعي (تويتر، فايسبوك، غوغل، ميكروسوفت، ياهو، الى آخره…). فهل انها أسلحة دمار شامل؟
معظم هذه الوسائل منصات تنقل المعلومات من طرف الى آخر وتعمّمها. ربما كانت المعلومة صحيحة أو مفبركة. لكن المنصة ليست فقط وسيلة نقل كالهاتف، بل هي صانعة برامج ومحتويات تنقلها الى المشاهد. هي كالهاتف، لنقل الأخبار، وكالتلفزيون لبث الأخبار. وهي منصة نقل وصانعة معرفة في نفس الوقت. والمهمة الأخرى التي لا تقل خطورة هي المراقبة. هم بضع شركات يقبع المسؤولون عنها في بضع غرف يتابعون جميع المعلومات والمضامين المتنقلة عبر المنصات. هؤلاء يعرفون كل شيء تقريباً عن كل من يحمل هاتفاً ذكياً. لحامل الآلة الذكية الحق بأن يبث رأيه أو أي شيء آخر يريد قوله. لكنه يتلقى من المضامين والبرامج والألعاب والبورنو وبرامج القمار أكثر بكثير مما يبثه، ومن ذلك الأخبار الكاذبة، والآراء الملفقة، وشتى الأكاذيب الأخرى.
عدد كبير من البشر يحملون هذه الآلة الذكية من ماركة معينة أو أخرى. يتكاثر عددهم بالملايين كل يوم. صار الهاتف الذكي الموصول على الانترنت أو ما يُسمى الجي 3 أو الجي 4، ضرورة لكل فقير وغني ومعدم. كثير من المعدمين يستدينون لشراء الآلة الذكية. هذه الآلة بنك معلومات: عن صاحبها أولاً وعن العالم ثانياً. اتصال صاحبها بالعالم وبنفسه (أي بضميره وذاته الداخلية) عن طريق الآلة الذكية والانترنت وما شابهها. يقضي كل فرد وقتاً مع هذه الآلة الذكية وتوابعها أكثر مما يقضي مع عائلته وأصدقائه وذاته. لا تنفع النصائح المتوالية من علماء الاجتماع وغيرهم لاقناع الناس بخفض مدة الاختلاء اليومية بالآلة الذكية. يفضل معظم الناس تسليم ذواتهم لها والخضوع، بدل الاستقلال عنها واحترام الذات.
وضعت هذه الآلة بيد البورجوازية العليا ماكينة ذكية تنقل الأخبار وتفبركها في وقت واحد. كانت الشكوى منذ نصف قرن وأكثر طول الساعات التي يقضيها المرء في مشاهدة التلفزيون، حين كان التلفزيون أداة بث وحسب، ينقل الأخبار من موقع الموت الى المشاهد، مع تحيّز لهذا الاتجاه أو ذاك، لكن تدخله في صياغة المضمون كان ضئيلاً. وكان يعتمد وسيلة تلقين ايديولوجي. كان الانحياز بحد ذاته وسيلة ايديولوجية يجري الاحتجاج عليها، ويّطلب منها الاعتدال وعدم التحيّز. وكان معلوماً أن شركات التلفزيون مملوكة لمصالح وشركات كبرى، ولا يمكن الخروج على خطها الايديولوجي. من أوهام الليبرالية أنها ضمت ذلك الى جملة الأوهام الأخرى، وقدمت التلفزيون على أنه موضوعي فيما يتعلّق بالأخبار وحيادي فيما يتعلّق ببرامج التسلية وبريء فيما يتعلّق بالايديولوجيا السياسية؛ لكنه كان جزءاً من الحرب الثقافية وبالتالي جزءاً من الحرب الباردة.
الماكينة الذكية تفوق ذلك كله. المحتوى فيها يتجاوز مئات وربما ألاف التطبيقات، حتى أنها صادرت مهام التلفون والتلفزيون (لم تلغهما بعد)، وتجاوزتهما الى تقديم المحتوى. كان الهاتف ثم التلفزيون ينقلان المعلومة وبعض المعرفة. صارت الآلة الذكية تنقل المعلومة وكل المعرفة (لم تعد هناك حاجة الى صحيفة أو كتاب)، وعلى أساس ذلك يتشكل الوعي.
بالنسبة للفرد المعلومة تبليغ عن حدث خارجي، المعرفة إلمام بالحدث. يتشكّل الوعي من جديد جراء دخلنة المعلومة والمعرفة. ليست المنصات جمعيات خيرية، بلمهمتها الربح. الربح هدف كل نشاط رأسمالي. هي منصات الرأسمالية ولا بدّ من أن تعمل من أجلها وفي خدمتها. الرأسمالية الكلاسيكية تستغل قوة عملك من أجل الإنتاج ثم اقتطاع فائض القيمة المادية. الرأسمالية الآن تستغل دماغك، وتقرر محتويات عقلك، وتكيّفك نفسياً. أنت تقضي مع الآلة الذكية ساعات أكثر مما تقضي مع عائلتك القريبة. لا بد وأن تتكيّف مع الألة الجديدة وتسلمها وعيك وإرادتك. هي تصنعهما من جديد. العملية البيولوجية التي أدت الى ولادتك تعتبر خلقا أول؛ يتبعها التربية والتعليم والتهذيب. ما يحدث عن طريق الآلة الذكية خلق ثان. لا يتواضع أرباب الرأسمالية الحديثة عندما يتحدثون عن الذكاء الاصطناعي؛ والأبحاث جارية في سبيل تطويره. لن يكون الذكاء الاصطناعي في عهدتك. سوف يكون في عهدة الرأسماليين، صانعي ومديري منظومات الآلة الذكية ومخرجي ومنتجي برامجها. المنصة تجني المال الكثير لأصحابها، لكنها أيضاً تضع بتصرفهم عقل ووعي المستخدمين، وهم معظم البشرية.
في النظام الجديد نخبة في مكان من العالم، أو في أمكنة متعددة، تقرر أفكار الناس واتجاهاتهم السياسية. هذه الملايين من الأغنياء والفقراء (معظمهم من الفقراء) الذين يمتلكون الآلة الذكية يمكن توجيههم وزرع الأفكار والاتجاهات السياسية وغير السياسية في أدمغتهم ليشكلوا القطيع. هم القطيع، أو قطعان تساق من الغرف التي تدير منصات “التواصل الاجتماعي”. المنصات تقرر المحتوى الفكري في أدمغة حملة الألة الذكية. تفرّغ أدمغتهم مما يمكن أن لا يتناسب مع العالم الجديد. تحشو أدمغة الكثرة من الناس بما يناسب. مع تحوّل هؤلاء الى قطعان، يكون طبيعياً أن يتجهوا الى الفاشية والنازية أو ما يسمى اليمين المتطرف. لن تُنشئ البورجوازية سوى أفكار اليمين المتطرّف الذي يتطوّر تلقائياً الى الفاشية والنازية. ربما هذا ما يفسّر صعود اليمين في حكم العالم. الوسائل الذكية لم تخلقه بل جعلته ينتشر. في الحملات الانتخابية، هناك دور استثنائي للآلة الذكية والأخبار التي تنشرها، سواء كانت صحيحة أو مزيفة. المهم أن تتقدم وجهة النظر، مهما كانت، على الرؤى الموضوعية. يصير كل شيء وجهة نظر. يحمل كل منا وجهة نظر في جيبه. يعتقد أنه يحمل الذكاء في جيبه. لكنه يحمل الفراغ في دماغه. ليس في الفاشية والنازية واليمين المتطرّف والقوميات المتلبسة بذلك إلا اشكال الفراغ الفكري. جحافل من البشرية تذهب الى صناديق الاقتراع حاملة وجهات النظر التي تعبّر عن فراغ الدماغ والتطرف والعداء للغرباء، والكره للمهاجرين، والإحساس الدائم بالخطر. الغرباء أشبه بكائنات من خارج الكرة الأرضية، هم يغزون هذه الأرض. لم يعد للعلوم التي تقود بحوثها الى استنتاج الاحتباس الحراري وتردّي الطقس أيما قيمة. الخوف والغضب. خوف من الغزاة (المهاجرين) وغضب على سلطات يعتبرونها متآمرة ضد وظائفهم. يغفلون أن تصدير الصناعة من بلدان المركز هو ما أفقدهم وظائفهم، ويغفلون أن الرأسمالية هي من فعل ذلك. الفاعل بنظرهم هو القطيع الآخر، القومية الأخرى، الغزاة الجدد. لا يعي هؤلاء أن التقدم الصناعي والتقني إياه الذي يضع الآلة في جيبهم هو ما ينتج البطالة. لا يعرفون، أو لا يريدون أن يعرفوا، أن البطالة صناعة محلية، وأن البطالة نتيجة حتمية لتركّز رأس المال بيد النخب البورجوازية التي تنضم إليها مجموعات من النخب التكنولوجية في “سيليكون فالي” وأمثالها حول العالم.
الإنتاج يتم في أماكن محصورة. يحتاج الى عدد قليل من الناس. الناس لا يلزمون إلا كمستهلكين. الذكاء الاصطناعي لا يجرّد الطبقات الدنيا من أدمغتها وحسب، ولا يحولها الى البطالة وحسب، ولا يجعل قيام النقابات أمراً مستحيلاً وحسب، بل يجعل الحاجة الى هؤلاء الناس غير ضرورية إلا كمستهلكين. المستهلكون العاطلون عن العمل، معظمهم فقراء، لا يملكون ثمن الآلة الذكية. التسليف حاضر. يشترون الآلة الذكية كما يشترون الملابس والغذاء، ولو بالدين. يزداد الغضب لكنه لايوجّه ضد المستغلين الحقيقين، بل ضد الآخرين الغزاة، ضد المهاجرين الذين هم أيضاً ضحايا، وهم أيضاً فقراء. المضامين التي تصنعها منصات التواصل الاجتماعي وتغزو بها أدمغة الفقراء فعلت فعلها في تحميل الضحية مسؤولية الجريمة. فعلت فعلها في تهيئة الجو لاستخدام العنف. عنف ضد المهاجرين الذين يتهمون بالإرهاب، وما يشبه ذلك. عنف يبدأ متفرقاً ثم يمكن أن يقود الى عنف بين الدول الكبرى وبين الدول الصغرى. الأفضل بالنسبة للنخب المالية أن يكون عنفاً تمارسه الدول الكبرى ضد الصغرى، حيث الانتصار مضمون. أما حين يتحوّل العنف الى ما بين الدول الكبرى حاملة القنابل الذرية، ففي ذلك ما ينذر بنهاية العالم.
البشرية أمام خيارين: إما تحويل الأكثرية الاستهلاكية المستدينة الى أشياء لا تلزم؛ إبادة جماعية مع الحفاظ على حيواتهم؛ وإما حروب إبادة ضد الآخر المكروه الذي يشكل خطراً داهماً. لا غرابة أن يعود المحافظون الجدد أو أبناؤهم الى الظهور في الولايات المتحدة؛ وأن يظهر أمثالهم في بلدان أخرى. هل يستطيع هؤلاء سوى تكرار تجربة غزو العراق على مدى أوسع في هذا العالم؟
العنف في مواجهة السياسة. اتفاقات سياسية واقتصادية وعسكرية حول العالم تلغى. تتلقى الدول بل الأمم الأقل حجماً تعليمات بشكل أوامر. لا مجال أمامها إلا التخلي عن سيادتها وتقرير مصيرها ومالها وثروتها لإرضاء الأخر الأكبر. لم يعد التفاوض هو الطريق للوصول الى اتفاقيات. السياسة هي هذه المفاوضات، سواء كانت ديبلوماسية بين الدول، أو داخلية من أجل تدبير الشؤون الاجتماعية والاقتصادية. الأخ الأكبر لا يتحمل تحديات. الجيوش جاهزة. وهل انها موجودة إلا من أجل القتال أو فرض الأمر الواقع؟ الأمر الواقع الذي يملى على الضعفاء من دون أن يكون لهم رأي فيه. الجماهير الفاشية تسرّ بالرئيس القوي؛ الرئيس الذي يوجّه الأوامر ولا يفاوض ولا يجترح التسويات. باستطاعته تقديم الوعود بغد أفضل وخفض مستوى البطالة ورفع الأجور. لكن الأجور لا ترتفع، والبطالة لا تنخفض فعلاً، إذ أن الكثيرين من الذين كانوا يبحثون عن وظيفة قد يئسوا من ذلك. كل تلك الوعود تتحقق فيما بعد كما يدعي القادة الكبار. المهم الآن هو توجيه اللوم الى ذلك الآخر الذي يهمّ بأن يغزونا أو يهددنا. ليست الحرب آخر الملاذات بعد استنفاد جميع المحاولات الدبلوماسية والسياسية. التهديد باستخدام القوة هو الراهن، وما على الآخرين إلا الانصياع. هل تنشب الحرب أو لا تنشب؟ ذلك أمر متروك للقدر. بالتأكيد سوف يكون هذا “الآخر” هو مسبب الحرب. السبب هو أنه لم يرضخ للأوامر. لقد فعلت الآلة الذكية فعلها، وقامت وسائل التواصل الاجتماعي بواجباتها. هي أفرغت الأدمغة من عقولها. أيّ قرار من السيد الحاكم مقبول. هو انتخب من أجل ذلك. لا يهم إذا كان على حق أو خطأ. لقد تحولوا الى قطيع، بعد أن أفرغت أدمغتهم من محتوياتها العقلية.
تعبيران يكشفان بجلاء ما نتحدث عنه: “الحقائق البديلة” و “الواقع الافتراضي”. يمكنك أن تقرر مصير العالم بناء على فرضيات تصوغها أنت، وعلى حقائق غير ما يبدو لك. أنت تقرر الحقيقة وأنت تقرر الواقع. الحقيقة والواقع ينبعان من رأسك، الفارغ أساساً. الحقائق الموضوعية. الواقع الموضوعي، كل ما هو موجود خارج الذات باستقلال عنها لم يعد موضع بحث. مع انتشار الآلة الذكية يتراجع التواضع لدى الذات. الذات هي تلك التي تصنع في الغرف التي تدير منصات التواصل الاجتماعي. من يملك هذه المنصات يملك الذات ويملك أقوى الأسلحة ويستطيع فرض نفسه على العالم. هو يفترض الحقيقة ويصنعها. هو يفترض الواقع ويصنعه. هو يصنعنا ويأمرنا ويسيّرنا.
لا بد من التشاؤم عند التفكير في مصير البشرية. تحولت الحداثة الى ما بعد الحداثة. تحولت الديمقراطية من السياسة الى الأمر ورفض التسويات.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق