يساكننا المقدس، يحتلّ المجال معنا حيث ننام ونجلس ونعمل. يجعل المحيط بنا جواً مغلقاً موصد الأبواب. يفرغ أدمغتنا من العقل وأفئدتنا من العاطفة. يحيلنا هيكلاً يتلقى كل نفايات وسفالات الفكر وقذارات الحقد والكراهية. يجعلنا نؤمن أننا متفوقون على غيرنا وأعلى منهم شرفاً وأخلاقاً. يبيح لنا ما لا يبيح للآخرين. يسهّل لنا قيادة الطوائف والإثنيات. يبعث لدينا طائفية كاذبة فاسدة. مهمته الأولى التعمية. تقتات عليه أرواح الجهلة. تزداد أعداد هؤلاء بما يوفّر لهم من مائدة لغذاء الروح. يعتلون منبر الاستعلاء الروحي والأخلاقي. يمارسون القسر والعنف على غيرهم. يضطر هذا الغير (إذا كان مستنيراً) الى التلطّي أو السكوت. استبداد أشبه بما تمارسه سلطة الطغاة. طغيان من تحت يقابل الطغيان الهابط من فوق.
المقدس شيء أو إنسان. يُفضّل أن يكون شيئاً؛ وأن يقدّس البشري بعد الموت. هو على كل حال يحوّل الإنسان الى شيء، الى موضوع أصابه السكوت تلذذاً بذاته. دائماً هو رمز عندنا أو عند غيرنا. غالباً أو أحياناً نصادره من الغير. نستفيد من خدماته سواء كان عندنا أو عند غيرنا. لكننا نرغب دائماً بأن يمتزج بخرافاتنا. هذا يمنحنا قوة الإقناع بما اعتقدناه من دون بحث أو تمحيص؛ من دون إعمال العقل والرؤية.
أهم ما في المقدس رفعه على تلة عالية فوق المجتمع، فيكتسب الاستعلاء الخلقي، ويشدّ معه جماعته الى الأعلى في سبيل التميّز عن الغير بالأخلاق والسلوك. تتراكم الأوهام. يصير المقدس جزءاً من الحياة اليومية، يبيح ويحرّم. هو إضافة للدين، وليس الدين براء منه. البيئة الدينية توفّر للمقدس أرضاً خصبة.
في الدين يؤمن الناس بما لا يرون ولا يسمعون ولا يحسّون. ليس إيماناً مطلقاً، بمطلق يتجاوز المادي. هو إيمان نسبي بمادي يحتمل الخطأ والصواب، والوجود والعدم. ينتزع من الدين الإيمان بالله. يحيله الى شيء من أشياء الطبيعة، أو الى واحد من الموتى. هو أداة للتجهيل، جهل العامة. إذا توسّع وانتشر، يفيد النخبة إذا أمسكت بالسلطة وكثر مالها. تحتاج السلطة الى مجتمع يسوده الغباء. تخاف من العقل لدى المجتمع. ترتعد فراضها من الناس المجتمعين في الميادين، أو المتظاهرين في الشوارع. هؤلاء عاد العقل إليهم وخرجوا من قيود السلطة والدين السياسي وحطّموا المقدسات.
يزدهر المقدس (الاعتبار للمقدس) بالشعوذة. أعمال يقوم بها من يتلبّس قوى خارقة غير ممكنة في الواقع والحياة اليومية. يتلهى الناس بها عن أمورهم. يغيب النقاش في السياسة. ينسى الناس مطالبهم الحياتية وحقوقهم لدى حكامهم. المقدس يقدّم لهم اكسير الحياة. حياة أبدية في الدنيا والآخرة. فصلوا بين الدين والعقل. صار الدين بلا عقل، والعقل يحاول من دون فائدة أن يلحق بالدين الجديد. يسبقه المشعوذون. في عصر الأزمات يكثر المشعوذون المتعاملون بالأرواح والمال. يفقد المجتمع وعيه. المقدس معرض للإهانة في كل وقت. قوانين البلدان العربية مليئة بمواد تدين من يلحق مساساً بالروح الدينية أو القومية. وتحرّم كل من يمسّ بالمقدسات. الاستنسابية كاملة في الأحكام. القضاة يحكمون لصالح أصحاب المقدسات وإلا فإن هؤلاء يمسكون الأمور بيدهم ويحاسبون من جدّف على المقدسات أو يعتبرون أفعالهم تجديفاً على الدين، بل نوعاً من الردّة. الردّة حسابها القتل أو الحرم.
في زمن الليبرالية الجديدة (الرأس المال المالي وطغيان المال والثروات) يزداد الإفقار. ملايين بل مليارات دون خط الفقر، وأحياناً دون خط العقل. تحتاجهم السلطة ليقوموا بما لا تقوم به. ليس تأنّفاً، بل حرصاً على أن تنشأ جماعات المقدس لتتحوّل الى ما يشبه الدواعش، فيمارسون القمع مباشرة، ضد الخصم بل ضد العقل والسياسة. ومقدسات الدواعش الافتراضية هي من مستلزمات السلطة، خاصة إذا كانت تخوض حرباً أهلية. إلتباسات خصومها تلمّع صورتها. المقدسات تتيح لأتباعها أدوات إضافية مجتمعية (شعبية) للقمع والغش. قمع أصحاب العقل وناشطي الاحتجاج والمطالبين بما لهم من حقوق على الدولة ومن حقوق في الدولة.
السلفية البعيدة والقريبة تُحيي ماضياً سحيقاً لم يوجد. أو تحيي شخصاً حديث الموت لم يكن كما تصوره القداسة. تقديس الأشخاص والأشياء لا يختلف كثيراً عن تقديس التاريخ وتزويره. إجبار التاريخ والحاضر على أن يكونا كما في رأس السلفية، سلفية الماضي وسلفية الحاضر، هو نوع من القسر والإكراه. هو مصدر العنف. المقدس والقداسة مصدران للعنف قديماً وحديثاً. لا يمكن أن يكون فوق الطبيعة إلا من عصى الطبيعة. هو مضطر لإعادة تشكيل الطبيعة كما يريد، ومضطر لأن يعيد تشكيل المجتمع كي ينظر الى الطبيعة كما يريد صاحب السلفية ومدّعي القدسية عند ذاته أو عند الغير.
مجرّد الافتراض أن في الطبيعة قوى تقضي على الطبيعة وتخالف قوانينها هو نوع من العنف. ما القانون الوضعي إلا محاكاة أو محاولة لمحاكاة الطبيعة؛ الإدعاء أن هناك من هو فوق الطبيعة، وراءها، بدايتها، نهايتها، أو شيء من هذا القبيل، متروك لله. والله في غنى عن هذه الادعاءات. ولمّّا كان على صورته، أو هو على صورتنا، فالجميع بغنى عن هذه الادعاءات. التوحيد المطلق لله يبعده عن الأحداث. اعتبار الله في كل شيء، ويحوي كل شيء، ويقرر كل شيء، هو إقرار من حيث لا يعلمون أنه كل هذه الأشياء ولا شيء مما يفكرون فيه في آن واحد. العلاقة بين الله والطبيعة لا يمكن أن يدخل فيها المقدس وإلا كان وبالاً على البشر الذين يضطرون الى التعامل مع الله على حدة عن طريق الإيمان من دون العقل، ومع الله على حدة من دون الإيمان.
العنف المعنوي يدفع الى العنف المادي. في مجتمع تكثر مقدساته، ويكثر الاعتقاد والتعلّق بها، ينتظر هؤلاء غلطة أو زلة لسان، أو خطأ ما يكون مقصوداً، وغالباً ما يكون مقصوداً، افتعلته السلطة، حتى يباشروا الهجوم على من إفتأت على المقدسات وانتهك المحرمات. يوسّعون المقدسات حتى يصير كل فرد مضطراً للاصطدام بها ولو عن خطأ. هي في طريقك أينما ذهبت ولا بدّ من الاصطدام بها.
من ناحية أخرى المقدّسات مهمتها إفراغ العقل من سويته، لجعله دائم الاستعداد والتأهب للدفاع عنها. أوهام يستخدمها أصحابها في خدمة السلطة. تعايشت المقدسات مع السلطات القمعية منذ آلاف السنين. الاستبداد يخشى العقل والسويّة والرؤية، ويعشق المقدسات والتعلّق بها والتعصّب لها، وبناء الحقد على أساسها. لا يكفيك أن تؤمن بما تؤمن به. عليك أن تكون كامل الاستعداد لمن يتعدّى على مقدساتك. هناك دائماً من يتربص بالمقدسات. معنى ذلك أن يتربّص بك وبطائفتك وبدينك وبجماعتك. المقدس معناه حرب أهلية دائمة أو متقطعة، لكن الاستعداد لها دائم. من يحتقر المقدسات، ويعتقد أنها خرافات، وأنها مصطنعة، وأنها لا تفيد شيئاً سوى تخفيض منسوب العقلانية وصولاً الى إلغاء العقل وطمس السياسة، ومن ينظر الى المقدسات نطرة سخرية واستخفاف يضطر أن يفعل ذلك سراً أو خوفاً من أقرانه.
هو استبداد يمارسه المجتمع واهل الغوغاء على غير المعتقدين بالمقدسات. يحتاج الأمر الى تحالف مع السلطة. يقود التحالف الى معاقبة المجدّفين. يبقى هؤلاء خائفين من ارتكاب خطأ القول، ولو على سبيل الخطأ، ما لا يحقّ أن يقال. أعين الجماعة مفتوحة عليهم. قمع تشترك به السلطة مع الجماعة. أسلوب ضبط يريح السلطة من فضح نفسها، لكنها تستفيد من الموضوع.
في كل القوانين والدساتير العربية مواد ملتبسة معنية بإهانة المشاعر الدينية أو القومية او النيل منها، الخ… الحكم فيها دائما استنسابي. سيف يسلّط فوق رؤوس العباد. المهمة دائماً هي القمع.
لا بدّ أن تقود كثرة المقدسات الى مجتمع مغلق. ينغلق جماعة المقدس على أنفسهم. يزعمون الدفاع عن أنفسهم لأنّ المقدس يعبّر عن هويتهم. يصيرون أرضاً خصبة لإشعال الحرب الأهلية. تقديس المقدّس يتناقض مع التسامح. عندما يزول التسامح يكون العنف جاهزاً لأخذ مكانه. المباح مرتبط دائماً بالتسامح. المقدس مرتبط دائماً بالعنف والحرب الأهلية التي يمكن أن يؤدي إليه.
حصر أمور الدنيا بين الحلال والحرام، والاقتصار على ثنائية الكفر والإيمان، وإلغاء الممكن، والاقتصار على إمّا معنا وإما ضدنا، يضيّق المجال أمام العباد، ويجعل التسوية مستحيلة، ويلغي السياسة؛ يلغي المجال العام. المباح، سواء كان المستحب أو المكروه، هو المجال العام، ومجال التبادل والحوار بين الناس. بينما مع مقدسات الاقتصار على الحلال والحرام لا مكان للمجال العام. بل هناك سلطة تحكم بالأمر: إفعل أو لا تفعل. لغة الحلال والحرام بسيطة تقلّ فيها المفردات ويقتصر الأمر على الاستحسان والنفور. هي لغة هذا العصر التي لا تعرف إلا الأبيض والأسود، وتتجاهل أن بينهما عددا لا يُحصى من ظلال المعاني الرمادية. لا مكان للمعنى في لغة المقدس. الأوامر تنفّذ من دون بحث وتمحيص وشك؛ من دون إعمال العقل وإنماء الوعي.
حتى الإيمان يفقد معناه. أن يكون لك تجربة روحية في الاتصال مع المتسامي فهذا أمر مستهجن. يكفي أن تتقيّد بالعقيدة وما ينبثق عنها من طقوس حتى يستقيم دينك. ليس لهذا الدين علاقة مع السماء بل مع زعماء أتباع العقيدة، مع تجييش الأتباع الذين يمارسون استبداداً على أتباعهم وأقرانهم وكل جماعتهم. الغير هو الخصم. يمكن أن نخوض معه حرباً باردة أو ساخنة لكنها حرب. لكنك لا تكترث لأرائه، أو تعتبرها كقراً لأنها لا تتوافق مع المقدس. المقدس يستدعي دائماً ثنائية الحلال والحرام؛ “نحن” و “هم”. عنف معنوي يتجه دائماً نحو العنف المادي ونحو الحرب الأهلية.
عندما يمتلئ المجتمع بالمقدس، تفقد الحياة معناها. تلغى الإرادة الفردية. يخضع الفرد للأمر الصادر عن الجماعة أو زعيمها. مهمته الطاعة وحسب. يصادر الطاعة سدنة الهيكل. يعود الناس قطعاناً. المهم أن يكونوا سويّة ضد الغير القريب أو البعيد. ينظرون بعين الرهبة والتوجس الى كل مغاير وكل متجاوز. يرفضون كل جديد. الجديد بدعة. يزول الإبداع. ولا إبداع إلا مع الدفق الروحي. لا لزوم للبحث ولا لمراكز الأبحاث. لا بحث في الحقائق. كلها معطاة. الذي يصادرها هو السلطة. سلطة الجهل تتحكّم. إنتاج الجهالة يعمّ المجتمع الممتلئ بالمقدس. ألا يحتار المرء أو يتساءل لماذا غياب مراكز الأبحاث (الجدية في بلادنا). المقدس في الدين هو المقدس في الحياة السياسة (التي تفرضها السلطة). لا لزوم أن تعرفوا. مالك المقدس، صاحب السلطة، يعرف عنكم، بالنيابة عنكم. أحال عقلكم الى فراغ يملؤه هو. الربط بين الاستبداد السياسي وتعميم المقدس حتمي من أجل تعميم الجهل، وتعميم الحرب. وتعميم الحكم بالأمر. المجتمع في حالة تأهب دائمة. حالة تعبئة شاملة لم تنفك أواصرها منذ الاستقلال. ما كان ضرورة في حروب التحرر الوطني (التعبئة الشاملة) يصير هو العادي والاعتيادي. يعتاد الناس على الانضواء في قطيع يحكمه مقدس الدين ومقدس السلطة. يتداخل المقدسان ويصيران واحدا. لا يعرف الأغبياء أنهم أغبياء، يعرف ذلك أصحاب سلطة المقدس ويفترضون ذلك ويفرضونه.
جرائم كبرى يرتكبها أصحاب المقدس. حروب إبادة يمارسونها بعد التعمية. التعمية مهمة المقدس في زمن نيوليبرالي حيث السلطة “المدبرة لشؤون الجميع”. هي المال وحده وأصحاب الرأسمال المالي الذي لا يريد لأحد أن يعرف الحقيقة. لا يريد أن يعرف الناس سبب فقرهم وبؤسهم، وأن من يراكم الثروة هو من يستغلّ ويصادر عمل الناس. يصادر عملهم بعد أن صادر عقلهم. العكس أيضاً صحيح. النتيجة واحدة. يظن الناس، نتيجة ذلك، أنهم ينشغلون بالقضايا الروحية بينما حقيقة ما يجري أن الرأسمال عموماً والمال خصوصاً يمتصّ دمهم. يتوحد المادي والروحي في هيكل الليبرالية الجديدة، ويصير الروحي أداة للكسب المادي لدى من يحكم العالم بسلطة المال. ما يقال عن السوق، وحرية المنافسة في السوق، وحرية التبادل، وهم في وهم؛ يقرّون نتائج التبادل في غرف مغلقة. وهذا مؤتمر دافوس شاهد على ذلك.
(يتبع)
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق