صبروا عليكِ كثيراً يا فريدة!
صبروا وما صبرتِ!
قالوا: غداً تفتح عينيها على الدنيا فترى انها غير ما تتصور فتتعظ وتلحق بركب التغيير، تتخلى عن راياتها المهلهلة، وتسقط شعاراتها التي باتت مجافية للعصر، وتنفتح.
قالوا: غداً تكتشف ان »قائدها« قد مات، وان »مصرها« قد ارتحلت الى الذاكرة، وان »عربها« قد خرجوا من عروبتهم الى »اسرائيل«، وان صوتها قد فقد جمهوره، وصار ما تقوله وما تؤمن به مجرد بكائيات قد تثير الحنين والشجن ولكنها لا تبدل في شيء، فما كُتب قد كُتب ولا عذر للمتخلف عن الركب او للأصم او للساكن في ماضيه.
قالوا: لقد حاولنا معها كثيرا فلم ننجح. دغدغنا أصولها الطائفية فلم تستجب. خاطبنا »وطنيتها« كمصرية فثارت لعروبتها. حاولنا رشوتها مادياً ففضحتنا. جربنا التواطؤ معها على زملائها فشهّرت بنا من فوق برج ايفل.
أخيراً، كان لا بد مما ليس منه بد، فصدر القرار »بإخراج« فريدة الشوباشي من اذاعة فرنسا العربية: مونت كارلو.
بعد حوالى ربع قرن من العمل الدؤوب الذي استهلك زهرة العمر، أمكن العثور على »توقيع لبناني« يضع الخاتمة الدراماتيكية لحكاية نجاح متميزة بالمعنى المهني كما بالمعنى السياسي.
في زمن الانكسار كان طبيعيا ان »تُطرد« فريدة الشوباشي شر طردة، وان تدان بتهمة »التطرف« لأنها رفضت تغيير جلدها ومنطقها ولغتها وحرصت على سلامة روحها من التلوث بمنطق السلام الاسرائيلي.
كيف يتبقى للعرب صوت صارخ في برية اذاعة فرنسية، واصواتهم قد كُتمت داخل اوطانهم او زورّت عليهم حتى كادوا ينكرون انفسهم للتبرؤ منها؟!
لكأنه سقوط الفارس الأخير!
ففريدة الشوباشي ليست صحافية ممتازة فحسب، تسبق الى الخبر، وتنفرد بالمقابلة الناجحة، وتحمي الحقيقة من التشويه فتتدخل بالتصحيح حين تدعو الضرورة، اي حين يكون التحريف متعمدا ومقصودا لتضليل القارئ او المستمع العربي عن جوهر الصراع.
فريدة الشوباشي مناضلة عربية قل نظيرها لم يتزعزع ايمانها يوما بحق امتها في التحرر وفي بناء غدها الافضل فوق أرضها… قاتلت ضد الغلط في مصر السادات، وضد الانحراف، وضد الانجراف الى الصلح المهين مع العدو الاسرائيلي.
وفي باريس، التي قصدتها لكي تستطيع ان تستمر في قول ما تؤمن به، وفّرت فريدة الشوباشي لإذاعة مونت كارلو الفرصة لأن تدخل الى وجدان المواطن العربي، حتى باتت أقرب اليه من معظم اذاعاته »الوطنية«.
على امتداد ربع قرن تقريبا أمّنت فريدة الشوباشي حضورا عربياً نظيفا ومشعاً في اذاعة مونت كارلو الفرنسية… وكانت »الأولى« دائما، بأسئلتها الشجاعة امام »الاليزيه« او في المحاورات السياسية مع المسؤولين العرب من زوار باريس… كذلك كانت »الوحيدة« التي رفضت ان تلتقي ولو كصحافية اي مسؤول اسرائيلي، لأنها أبقت نفسها كما شعب مصر العظيم خارج نطاق كامب ديفيد ومعاهدات الإذعان.
ها هي »فريدة« الآن في الشارع، ومعها عدد من زملائها الذين صنعوا مجد اذاعة مونت كارلو.
»فريدة« الآن، حيث كانت دائماً، في الضمير العربي. لم تعد لنا اذاعة عربية في الوطن العربي، فكيف تكون لنا اذاعة عربية في باريس.
سلاماً أيها »الفارس«!
ليس للأنا مجموع…
في خلال أقل من خمس دقائق أحصى في حديثها عشرين »أنا«.
ضاق به المكان، وضاق بحديثها الذي كان يبدأ بها وبها ينتهي ويُسقطه سهواً أو عمداً، لا فرق.
على ان ما ازعجه تكرار استشهادها به في كل ما تقول، لتؤكد انها المرأة التي لا تخطئ..
أنت تعرف انني صادقة، وتعرف انني لا اهتم لما يقول الناس عني، وتعرف انني اكثر شهامة من الآخرين، وتعرف انني أجمل من هاته اللواتي يحسدنني فيتقولنّ عليّ لتشويه سمعتي… أنا أعرف نفسي، وأعرف انني فوق ما في نفوسهم.
هو يعرف؟!
سمعها تسأله: ألست معي؟! ألست من رأيي؟!
هز رأسه ليتخلص من الحرج، وفكّر: ليس »للأنا« مجموع. »نحن« ليست حاصل جمع »انا«. نحن هي حاصل جمع أنا وأنت وهو وهي.
ليس للأنا مجموع.
أنا + أنا + أنا = أنا.
أنا، مهما تعددت، لا تصير نحن.
* * *
في جلسة أخرى تصادمت أكثر من »أنا«.
حاول المضيف بدماثته ان يفض الاشتباك بين المتبارزين على الموقع الأول والأرفع والأرحب والأحب من بين ضيوفه ففشل في مهمته واستبد به الغيظ فكاد ينتقم »لأناه« المكسورة.
ارتفعت الانانية في الجلسة أعمدة من ملح، تتلاطم فتتصادم، ويكسر بعضها بعضاً، كان كلٌّ يزمجر غضباً وهو ينظر الى الآخر: بل أنا! أنا لا أنت! أنا قبلك! أنت بعدي إن كان ثمة بعدي بعد.
وقعت »أنا« الثانية على »أنا« الاولى فحدث الانفجار الذي أطاح »أنا« الثانية… ووجفت كل »أنا« اخرى، فسادت نظرات الشماتة بالمتصادمين والخوف من امتداد الصدام الى كل »أنا« نائمة او متناومة.
لاحظ ان قلة من المتعاركين تتسع »الأنا« عند واحدهم لرفيقة دربه، زوجة كانت ام مجرد مرشحة لموقع شريكة العمر.
واكتشف أن أسوأ أنواع »الأنا« هو ذلك الذي يغدو مزدوج الفوهة، او بصوتين يرددان الكلمة نفسها، فيمد الصوت صداه بالزخم ثم يعيد الصدى الى الصوت زخماً إضافياً ويكون لا بد من العراك.
ليس للأنا مجموع.
أنا لا تصير نحن،
لكن »نحن« تتشظى الآن الى مجموعة من »الأنا« التي لا تفعل غير إلغاء المجموع: سواء في السياسة ام في الاقتصاد ام حتى في المجال الأرحب للحب الذي يتسع للجميع ما لم تحتله »أنا« وتضغط عليه فتكتم انفاسه ويموت مختنقاً، لأن لا هواء في فضاء »الأنا«… لا أوكسجين!
تهويمات
} وجدت على بابي بطاقة صفراء: جئنا فلم نجدك! وكان التوقيع فراغاً كالذي في قلبي!
} لا تستطيع امرأة ان تأخذ من الرجل ما يزيد عن أنوثتها. ماذا يفعل النهر بعد ان يمتلئ الإبريق؟!
هل يسأل الطوفان لماذا خرب البساتين والطرقات لأن حضنك كان ضئيلا فلم يتسع له؟!
} كتبت إليه: تركتني أنتظر في الشعر وأخذني بعيداً… فكنت قصيدتي!
دائماً أنت في البعيد، لا أصلك إلا شعراً،
أين يدك تبعثرني؟! لقد كرهت ان أستمر أنظم نفسي!
} في سن المراهقة كان يحبهنّ »ناضجات«.
في سن النضج ارتدّ يحبهنّ مراهقات.
وعندما استقر في سن اليأس تزاحمت عليه الاعمار فمات حباً.
أيام كان في البلاد رجالها..
قال لي بلهجة تتجاوز اللوم إلى شيء من التأنيب:
لماذا زاد عدد النساء الى هذا الحد؟! أنظر الى الشارع، مقابل كل رجل هناك ثلاث نساء، ربما أربع، وأحيانا خمس!
كنتُ ذاهلاً بعد، وأنا أبحث عن مسؤوليتي عن هذا الوضع، حين سمعته يضيف:
أما إذا نظرنا الى مَن يقود السيارات الكثيرة فإن النسبة ترتفع كثيراً، معظم السيارات العالية شبه العسكرية تجلس الى مقاودها النساء، ومعظم السيارات الأنيقة على صغرها تقودها من خلف نظارات الشمس النساء.
ماذا فعلتم؟! ماذا جرى لكم؟ أين الرجال منكم؟!
فكّرت بأن أرد ثم عدلت، وتركته يكمل »مناجاته«. قال:
في ثلاث سنوات فقط حدث كل هذا؟! ما السر في تكاثر النساء؟! وأين كُنّ حين كنا نتشهّى منظر امرأة؟!
التفت إليّ فغاظه أنني كنتُ أنقل بصري بين صبيتين ساحرتين تتزاحمان في سيارتين جديدتين بلونين متميزين… قال بحدة:
أنت، كالعادة، مجرد متفرج! لا يهمك أزاد عدد النساء أم نقص.. أما أنا…
رفعتُ إليه عينيّ متسائلا عن سبب انقطاع صوته، فوجدته يحملق في باب سيارة انفتح لأحلى ساقين رأيتهما، وكان عليّ ان أتابع الساقين صعودا الى الوجه الصبوح ذي الشفتين المكتنزتين والمكثفتين بالأحمر، فإلى العينين الناعستين اللتين لم تتوقفا عند وجهينا بل استمرتا تنظران الى البعيد:
هل يعجبك هذا التجاهل؟ أيام كان في البلاد رجالها لم تجرؤ امرأة على تجاهلي! أتراني أخطأت بغيابي؟! ولكنني ما كنت أتخيل ان ينقلب عاليها سافلها في مدة ثلاث سنوات فحسب. لا عجب إن عمّ الخراب هذه البلاد التي باتت مملكة للنساء.
كنا على الرصيف، ننتظر ان يأتي بواب الفندق بسيارته، ومرت بنا واحدة من معارفي، فتوقفت للتحية، ورأيته ينظر اليها بشيء من الذهول وهي تقبلني مجاملة فأقبّلها… وما ان ابتعدتُ عنها حتى هتف بغيظ مكتوم:
سبقتم أوروبا يا ابن العم! قبلات في الشارع! الآن فهمت لماذا تتحكم بكم النساء! ولكنني ما زلتُ لم أفهم لماذا تزايد عددهنّ فصرن أضعاف أعداد الرجال؟! وكيف لي ان أحفظ مكانتي وأعوّض غيابكم؟!
لم أفهم قصده، مع انه كان يرتسم واضحا في عينيه، الى ان أكمل فقال:
تتقاعسون ويكون عليّ أن أعوّض غيابكم! أغيب سنوات قليلة فإذا النساء تتحكم بكم! من أين لي الأيدي الكافية والشفاه الكافية والطاقة الكافية لأُلبي كل هذه الرغبات المعلنة؟! إنكم تدفعون بي الى الانتحار! في الماضي كدنا نموت ضحية النقص في عدد النساء، وها أنا مهدد بالموت في قلب طوفان الحريم!
وصلت سيارته فدعاني لأن أصحبه ولكنني اعتذرت قائلا:
أفضّل أن أتركك حراً، لتتصرف براحتك. إنهنّ كثيرات، كما قلت، وقد يتزاحمن عليك فيملأن جميع المقاعد. أعرفك شرهاً، ولكن انتبه الى صحتك.
قال وكأنه لم يسمعني: لنحدد امرأة الانطلاق… الدعوات كثيرة، فأيها أُلبّي؟ لنبدأ بهذه العشرينية الشقراء. الاربعينيات مستجيبات دائما فلنجرب الصغيرات الصعبات. ها قد وصلناك يا بيروت، فلتحتفل كل النساء بعودة الملك.
اندفعت سيارته الى الامام، ثم رأيته يتمايل بها في الزحام قبل ان تشده لجة الطوفان النسائي الخطير.
أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلاّ الحب:
الثرثرة تنهك الحب. قل بعينيك أكثر مما تقول بلسانك. اترك لحبيبك فرصة التأمل. أحلى ما في الحب أنه ممتلئ بالمفاجآت الصغيرة السارة… والثرثرة تغتال المفاجأة. أصمت قليلاً لتحب كثيراً.