صباحاً، يجفّ الدم. مساءً يُحصي العدو المعتقلين. سقطت قلعة ليلاً: مخيّم مات أهله صباحاً. لا وقت للبحث عن رغيف. الطرقات فارغة. وحدها عاصفة القتل مشغولة بتحويل الأبنية إلى مقابر.
الحضارة كانت تصدر بيانات تتهم القتلى بالإعتداء. يسأل الفلسطيني عن ضميرٍ ما؟ عبثٌ. لم يطلْ البحث. مجاعة. يمد يده إلى السماء لا تراه. الحديد يقضم الجدران. يعود الحب إلى البيوت، في وداع السماء. السجود لله غير كافٍ. على المدينة أن تسجد على حجارتها إلى الأبد.
لا أسماء للشهداء. السجل اليومي يعبق بدم وعشق وبكاء. عويل صامت في القلوب. الأطفال يقاومون الموت. تتقدم الوحشية. دائماً، هناك من يُلوّح بجبهته. إنها مزمومة ومتعرجة، ولكنها خريطة الطريق إلى بيته الذي كان.. إلى قبر أمه الذي بلا عنوان.
الشاشات منحازة. تُقدّس وتحرس القتل. السماء تمحو أرضاً. تُمسي المجزرة واجباً مبرراً. الحرب نزهة والتاريخ يُكتب بفوهات البنادق وصواعق الطائرات. ليس غريباً أن يكون الكذب عملة مزدهرة، أشبه بطلقات الرصاص.
أسابيع وأشهر ولم يتعب الطيران من التحليق. لا ينتقي أمكنة محددة. أنا أعمى ما بشوف. هكذا. كل المدى حقل رماية ومساحات قصف. الزيتون ممنوع. النوم نادر. تعداد السكان يتناقص. ما يحدث ليس حرباً. إنه تدريب جدي على المجازر.
يسأل التلميذ عن مدرسته. الكتب صارت من الماضي. جرس الدار صامت وسط ركام بليغ. يسأل الشهيد عن جبّانة. عذراً. لا وقت للبحث. ترجل من موتك واندفن كيفما كان. نعتذر. لم يحضر أحد من العائلة لذرف الدموع.
هل صحيح أن الفلسطيني باع بلده. يا أولاد القحبة. هل عرفتم شعباً بلقب الجبارين؟ هل سألتم أحداً في التاريخ، لم يترجل عن جلجلته طوال قرن من الزمن؟
ماذا يقال؟ العدالة الإلهية؟ غض النظر؟ التضامن الدولي؟ سؤال سخيف. معنا، من هو مثلنا ناصع الجبهة. احتل الناس الطيبون، قديسو العدالة والحب، شوارع العالم. لاذت السلطات بالصمت. العرب: الإسم غلط، هؤلاء ليسوا عرباً أبداً. بعضهم كان يطالب بالبراءة.. ولو! في غزة جوع. في غزة دماء. في غزة عراء. في غزة غابات حزن وتلال عويل وموت يتدحرج بسرعة لا توازيه الأرقام المتسلسلة.
الجوع يا عالم. لم تسكت المدافع. لم ترتح الطائرات القاذفة. المشافي تضاءلت. جدرانها اتكأت على صمت إلزامي. الأدوية قاصرة.. والعرب في كل وادٍ يهيمون. “الأشقياء العرب” من جنس التخمة. من سلالة الركوع. من إضبارات الاستدعاء من تجسس يصطفي الأنقياء. عواصم العرب: بلاد الجبن أوطاني. ولا طلقة. يُحذّرون النسور من عواقب المواجهة. لائحة اتهام سرية جرى تداولها بين “حكماء التحكم بالبلاد والعباد”. قدّموا لائحة اتهام سرية وعلنية معاً. لولا “حماس”، لما كان العدوان على غزة. حاكموا “حماس”!
هل عرفتم طفلاً يتلو بياناً؟ كان وحيداً. هو الباقي الوحيد من أسرته. قال ما لا يُستوعب. من أين حنجرته؟ من علّمه الانتصار على الصمت؟ من هذّبه ليكون بكاؤه ناعماً؟ من وألف من؟ لا أحد. هذا الطفل المتهم يساوي أمة سجدت على جبينها القذر.
يوم. يومان. أسبوع. أربعة أسابيع. شهر. شهران. ثلاثة أشهر. لا أحد من بلاد الموت يتحرك. الشعوب ازدادت اعتراضاً. أصوات بلغت آذان الله. اهتزت ملائكة الروح عند شعوب لا تنطق العربية. هناك رجال ونساء وأطفال حرّروا فلسطين في عواصم عديدة بأصواتهم وقبضاتهم. الأنظمة خافت. منعوا الكوفية. طز بهذه القوى العظمى. تخاف من رمز. ضد استعمال كلمة فلسطين. إنما برهنت هذه الحكومات على أنها مقيمة في الجبن. المتظاهرون رفعوا الصوت والقبضات. هاجت الأرواح. الاتهامات تزندقت. الغرب “الحضاري” تعرّى من ردائه الأخلاقي والحقوقي. صار يكذب. بدا أنه يشبه أنظمة عربية، تبتكر التلفيق. بالإمكان التفاخر: “دول” الغرب وحكوماتها تتشبه بـ”دول” العرب. الوقوف ضد “إسرائيل” تهمة. الدماء الفلسطينية ممنوعة من الظهور في الإعلام.
تحوّلت الأنظمة إلى أسواق. شهروا أسلحة الكذب. أطاع الإعلام ثم طوّع الإعلام العالمي الوقائع. إعلام رخيص، لا يساوي فردة حذاء قذرة. وجوههم ملطخة بدماء أطفال ونساء وشهداء وقديسين.
يسأل الشاعر محمود درويش أحدهم: من أين يا أخي؟
– من غزة.
¬ ماذا فعلت؟
– ألقيت قنبلة على سيارة الغزاة فانفجرت بي. ألقوا القبض عليّ واتهموني بالانتحار.
¬ اعترفت طبعاً؟
– ليس تماماً قلت لهم إن محاولة الانتحار لم تنجح ولذلك حرّروني من الرحمة وحكموا عليّ بالمؤبّد.
¬ ولكنك كنت تنوي القتل لا الانتحار!
– يبدو أنك لا تعرف غزة. المسافة هناك شيء وهمي.
هذه غزة. لا تعرف الركوع. طوّعت الموت. صار خبزاً يومياً. غزة تحت الاحتلال كانت، ولكن سراحها مطلق. هي من الأرض التي لا تقول وداعاً. لا تعرف اليأس. من جراحها، خرجت مدرسة المواجهة، حتى ولو قلقت أسماء على دمائنا.
العدل في غزة، تصفه الدماء.
الحب في غزة، تلهمه الجراح.
الحياة في غزة، رعاية الصراع.
هي، دين، وقومية، وعدالة، وحرية، وقامة، وثقافة، وحياة.. هي تكتب التاريخ بالدم. لا محلول أو دواء يُغيّر لون الدم وجسد غزة. هي الوطن من زمان وإلى آخر الأزمنة.. “أرض إسرائيل”، ليست من هذا العالم.
هل يعرف العالم أن فعل الأمر هو فعل “إسرائيلي”؟ الضابط يأمر جنوده. احصدوهم. ثم ينهمر الرصاص. عُمرُ هذا المسلسل سبعون عاماً. القتل هو “أوكسيجين” الجيش “الاسرائيلي”. عناوين المجازر تحتاج إلى ملفات. أسماء الشهداء، بحاجة إلى عشرات آلاف الصفحات.
إن دماءنا تملأ تاريخهم.
يا للعار.
كم هو ثمن القتل؟ “إسرائيل” لا تجيب.
كم هو عدد الأعراب؟ يا للعار. وحده الموت أكبر منهم وأكثر من خذلانهم.
ليت شعباً يعامل نفسه على أنه انسانٌ.. وحرٌ، وجديرٌ بالحياة. ليت ذلك يحدث. إنما في الأفق نبوءة:
العالم يتغيّر. سينتهي شريط: “أننا نموت مع أننا أحياء”. لن نظل تحت الأنقاض وفي حراسة الخراب. طموحنا يلزم أن يكون: انتهى زمن موتنا، والموت للأعداء، لقد متنا مراراً. فلنمتهم وهم أحياء يرزقون. عاشوا ضدنا، لا يكترثون بموتنا جوعاً وقتلاً و.. تخمة.
لن نغض النظر عن الأمل.
غزة ستظل ناطقة وجميلة، بشهادة الركام والدماء.