نشرت في جريدة “السفير” ضمن “هوامش” بتاريخ 13 تشرين الثاني 2008
لن يثير الاستغراب أن يتم النداء، غداً، على الناخبين بطوائفهم:
الماروني الى اليمين، السني الى الشمال، الشيعي الى الخلف، الدرزي الى الشرق، الكاثوليكي الى الغرب، وهلمجرا، وصولاً الى المنتمي الى الطائفة الثامنة عشرة من الطوائف ـ الأمم في لبنان الأكبر من الكون!
أما ما قد يثير الاستغراب فهو أن يتلاقى في قلم اقتراع واحد ناخبون من طوائف عدة. والأعجب أن يتوافق هؤلاء المختلفة طوائفهم على قائمة انتخابية واحدة.
متى تحولت الانتخابات الى استفتاءات طائفية ومذهبية فأي دور يبقى للإعلام؟! وهل يكون للعاملين في حقل الإعلام مساحة من الحرية تزيد عن المساحة المتاحة لهم كمواطنين؟
أليس الإعلام مصنّفاً، طائفياً ومذهبياً الآن؟
المحطات الأرضية مصنفة. الفضائيات مصنفة. الصحف مصنفة. المجلات مصنفة. الإذاعات مصنفة.
وكل التصنيفات خارج السياسة… وخارج الدين أيضا، لان التعصب لطائفة أو لمذهب يُخرج الإنسان على أصول دينه.
حتى الفضائيات الرسمية صارت تصنّف بحسب مذهبية الحاكم أو طائفيته.
وفي زمن الفتنة فإن دولاً أو قوى دولية عديدة قد أنشأت فضائيات لا هم لها غير تحريض الناس بعضهم ضد البعض الآخر، حتى يضيع الجميع عن حقائق حياتهم ويتفرقوا فيحتربوا ولا قضية.
وصولاً الى الصحافة والصحافيين. صارت الكتابة بطائفة الكاتب. صارت الجريدة بطائفة صاحبها. صارت للكلمات معان غير معانيها الأصلية. صارت تعبّر عن المضمر، ولو أن المضمر طيب لكشفه صاحبه صراحة.
في مناخ وطني عماده المواطنة، أي المساواة التي يحكمها وينظمها ويحميها الدستور، تذوب طائفية المنصب. في غياب المواطنة تصير الطائفة الهوية.
ينشأ الطفل في مناخ طائفي، بل مذهبي.
يتكفل به البيت بداية، فإن قصّر عوّضته المدرسة الخاصة، التي منذ أمد طويل صارت مقصد الأطفال والناشئة، تارة بذريعة تميزها باللغات الأجنبية، وطوراً بتوفير مناخ اجتماعي للاختلاط الراقي. وماتت المدرسة الرسمية أو تكاد، لتحل محلها المدارس التي تدل أسماؤها على هويتها الطائفية، صريحة، وطاردة للتلامذة المختلفين في طوائفهم عن منشئيها ومستثمريها.
ينشأ الفتى والفتاة في مناخ طائفي، بل مذهبي،
يختار الأهل الجامعة الأكثر أمانا، بمعنى تلك التي مناخها »يلائم« »هوى« المنطقة… ومزاج أهلها.
برغم ذلك لا تزال هناك جزر جامعية للهاربين من مناخ التعصب… ولا يزال هناك طلاب يقبلون صداقة آخرين خارج الحزبية الطائفية المموّهة بالسياسة.برغم كل هذا، فإن مناعة الناس عموماً لا تزال قوية… بدليل أنهم ما زال يقبل بعضهم بعضاً. يعملون معاً. يعيشون متجاورين ومتحابين. يتصاهرون ويتناسبون… حتى إذا ما دقت ساعة الديموقراطية التوافقية افترقوا وتوزعوا أيدي سبأ؛ كل يجد نفسه مدفوعاً الى جحر طائفته، لا يقترع إلا لابن طائفته، ولا ينتخبه ديموقراطياً إلا أبناء ملته.
أي أن الانتخابات في لبنان تلغي الديموقراطية. أي أننا من أجل تثبيت إيماننا بالديموقراطية نحتفل بقتلها ـ ديموقراطيا ـ بالاقتراع السرّي.. ربما خجلاً أو استحياء من ادعاء نسبة انتخاباتنا الى الديموقراطية.
أما عن أنماط التزوير فحّدث ولا حرج: بعضها علني مكشوف، وبعضها الآخر متقن التمويه.
ولقد شهدنا أنماطاً مختلفة من التزوير للانتخابات، فلكل عهد أسلوبه في التزوير.
هناك التزوير بالأمر المباشر كما حدث في أول انتخابات نيابية في عهد الاستقلال.(انتخابات 25 ايار 1947) التي كان غرضها التجديد لأول رئيس للجمهورية في عهد الاستقلال.
وهناك التزوير بالأمر المباشر، عبر قانون الانتخاب وتقسيم الدوائر.
لنتذكر أن كل رئيس للجمهورية قبل اتفاق الطائف، كان يقر أو يصدر قانونا أو أكثر للانتخابات! كان يتم التبديل في أعداد النواب وفي تقسيمات الدوائر بما يضمن للرئيس، الذي كان مطلق الصلاحيات، أن يسيطر على المجلس كله وبالاستطراد على الحكومات… ديموقراطيا!
ولنتذكر أن المجلس النيابي المنتخب في العام 1972 قد عاش عمراً قياسياً ناهز العشرين عاماً ـ حتى 1992ـ وأن التعديلات على قانون الانتخاب، بعد الطائف، قد راعت النسب الطائفية في أعداد النواب، توطيداً للديموقراطية، وتمكيناً للأجيال الجديدة من أن تعبر عن نفسها بغير قسر طائفي أو مذهبي!
وأن أول انتخابات بعد الطائف قد جرت في ظل مقاطعة مسيحية.
وأن آخر انتخابات في العام 2005 قد جرت في ظل تحالفات جرارة طمست الفروق بين القوى السياسية، برغم خطورتها… وهي لم تتأخر في أي حال عن الانفجار بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006 بكل ما حفلت به من بطولات… وكان صاعق التفجير طائفياً، بل مذهبياً. لم تصمد التحالفات الانتخابية أمام نتائج الشحن الطائفي والمذهبي.
وهكذا بدل أن تكون الحرب الإسرائيلية على لبنان، سبباً للتوحد في مواجهة العدو، اتخذت ذريعة للانقسام وكادت تنتهي بالبلاد الى حرب أهلية.
أين موقع الإعلام في هذا كله؟
ليس الإعلام جزيرة في المحيط المتجمد الشمالي. إن الصراع خارج السياسة يحوّل الإعلام الى أرض اشتباك بين ممثلي الطوائف والمذاهب.
بعدما احتل التلفزيون صدارة الإعلام تراجع دور الإعلام المكتوب وطوّر المال السياسي وسائل الإعلان الحديثة: التبرعات السخية للمشاريع الخيرية، لدور الأيتام، شراء المحاصيل الزراعية في مناطق بالذات، إنشاء طرق مرجأة منذ أجيال .. مع التوقف أمام دور الزفت في تبييض النتائج.
لم تعد الرشوة فردية، صارت جماعية. تُدفع الرشى لمدن، لبلدات، لقرى، ودائماً تحت لافتة إحقاق الحق والتعويض عن حرمان سابق، واللحاق بالطوائف المنعمة بامتيازاتها.
صار مستحيلاً على الفقراء أو متوسطي الحال أن يغامروا بترشيح أنفسهم بحسبة بسيطة، فإن الكلفة الأولية المسموح بها قانوناً، تتجاوز مئة وخمسين ألف دولار. وبالتالي فإن اللائحة ضمانة الفوز. واللوائح طوائف. ومن لم تعتمده مرجعيات طائفيته لا يصلح لتمثيل الشعب… ديموقراطياً.
ماذا يستطيع الإعلام أن يفعل، مهما كانت مساحة حريته؟!لنتفق بداية أن العاملين في الإعلام ليسوا ملائكة.
وأن المؤسسات الإعلامية مكلفة مادياً. وأن المصدر الأساسي لدخلها هو الإعلان. ومتى تحولت الانتخابات الى مواسم إعلانية انعدم معيار المحاسبة. فلماذا يُطلب الى وسيلة إعلامية ألا تفيد من الموسم الانتخابي إعلانيا؛ بينما كل اللبنانيين، وعلى اختلاف طوائفهم يزدحمون في السوق، باعةً ومشترين؟
ثم إن النتائج مقررة، نتيجة الفرز الطائفي والمذهبي…. ويبقى للافتتاحيات وصفحات الرأي أن تبرئ ذمة المتورط برغم أنفه. فما كُتب من نتائج يُكتب خارج الصحف وخارج أقلام الاقتراع.
والإعلام نتيجة وليس سبباً، ومن العبث أن نتناسى كل الأسباب ثم نرمي الإعلام بخطايانا ونرتاح!
(كلمة ألقيت في الجامعة الأنطونية، ضمن محور عن الانتخابات والطوائف)