كاد الفضول يخنقني. سمعت عنها قبل وصول الفيروس إلى بلادنا واقتحامه حياتنا. سمعت أنهم استبدلوا الندوات والمحاضرات المفتوحة بجلسات حوار بين مشاركين يشاركون من مواقع يوجدون فيها. لا حقائب وبطاقات سفر ولا تأشيرات دخول ولا غرفة في فندق فاخر وبرنامج مكثف ووجبات مشتركة. أيام راحت إلى غير عودة أو إلى عودات متقطعة لا تغني. كثيرون جدا من أبناء جيلي يتحسرون الآن على تلك الأيام ويحنون إلى هذا الأسلوب التقليدي لعقد اللقاءات الرسمية والفكرية. أنا أحد هؤلاء، أشعر مثلهم بالحسرة والحنين. فبفضل هذا الأسلوب استطعت مع أشخاص عديدين في مختلف بلاد الدنيا نسج شبكات علاقات بلا حصر. أنا مدين لبعض هذه الشبكات بأوقات هى الأحلى على الإطلاق وبأخرى هى الأكثر ثراء في نواحي الفكر والإبداع. أعرف عديدين حققوا بفضل هذا الأسلوب العتيق وهذه الشبكات الكثيفة أمجادا تحسب لهم وأعرف كثيرين حسبت عليهم وعلى أوطانهم.
تعرفت على الممارسات الديموقراطية في بلاد عملت فيها ولم أتعلمها في وطني. نعم، حضرت في مصر وكنت صغيرا اجتماعات انتخابية في بعض بنادر الوجه البحري واستجبت مرتين أو ثلاث لدعوات من شبان في الحي لمساعدتهم في تنظيم أحد السرادقات الانتخابية لقريب لهم مرشح عن حزب الدستوريين. وفي دورة انتخابية أخرى جلست في صفوف الشرف مع والدي وأصدقائه، ذهبوا لتزكية المرشح الوفدي. وإن نسيت فلن أنسى مساهماتي المتواضعة على امتداد ثلاث سنوات في الاحتفال بعيد ميلاد جلالة الملك المعظم فاروق الأول وبعيد جلوسه على عرش المملكة المصرية. الأول نحتفل به في الحادي عشر من فبراير والثاني في السادس من مايو. أذكر أنني كنت أرتدي قميصا أبيض وشورت من نفس اللون ونكون في المدرسة في الخامسة صباحا لتنقلنا الحافلات في السابعة إلى ميدان عابدين. هناك نتدرب لمدة أربع ساعات على تنفيذ استعراضات لنؤديها أمام جلالة الملك عندما يطل علينا من شرفة القصر المهيب.
تلك المرات المعدودة جسدت بالفعل جميع تجاربي على الطبيعة مع الديموقراطية المصرية. أعترف أن الحجم الأكبر من معلوماتي عن الديموقراطية أدين به إلى ما قرأت ودرست وتابعت في مراحل أخرى من حياتي وبلاد غير بلدي. تلقيت درسا أو أكثر وأنا في سن المراهقة وعلى أبواب الشباب في أصولها النظرية في جامعة القاهرة ولكن عشت تجاربها العملية مراقبا في الهند ثم في إيطاليا ثم متعمقا في فلسفتها وتاريخها أثناء مرحلة عدت فيها إلى مقاعد التلاميذ في جامعة عريقة بمدينة مونتريال في كندا.
خطرت على بالي أفكار غير قليلة وأنا أدخل متسللا إلى أول اجتماع بتقنية الزووم أشارك فيه. كان الظن أنه يمكنني أن أقضي ما شئت من وقت الاجتماع دون أن يشعر أحد بوجودي. لم أعرف أن أزرارا في لوحة أمام مدير الحوار تضئ فتنبئه بحضوري ورغباتي إن كانت لي رغبات وبانصرافي. لذلك كان ارتباكي عظيما عندما سمعته يدعوني لمداخلة أعرض فيها ما كونت من رأي في النقاش الدائر. لم أعرف بأي كلمات أرد. قليلون بين أصدقائي هم الذين أحاطوا بظروف نشأتي وتدريبي التي حرمتني من تطوير ملكة التدخل بالكلام في أي موضوع دون إعداد أو تفكير وتمهل. لم أعرف كيف أعتذر فتدخلت وليتني ما فعلت فمداخلتي لم ترق لي وأنا أدلي بها.
خرجت من هذا الاجتماع وكلي إصرار أن أعرف أكثر عن هذه الوسيلة في عقد الاجتماعات. ازداد إصراري تحت ضغط نصائح الأصدقاء وكلهم مقتنعون بأن المستقبل لهذه الوسيلة وليس للوسائل التقليدية. ستكون في القريب العاجل أولى الوسائل وأكثرها انتشارا في الدبلوماسية الدولية ومراكز البحوث الأكاديمية والعلمية، وسوف يعاد النظر في الجامعات في محتوى مادة تنظيم المؤتمرات وأساليب اتخاذ القرار الجماعي. أهى ضربة جديدة موجهة لأحد أهم قطاعات السياحة وصناعة الفندقة والترفيه؟. فكرت في كل هذا وفي غيره أيضا بينما كنت أحاول فهم ما يجري هناك. هناك أين؟ ثم السؤال، وإلى أين؟
جربت مرة أخرى ومرة ثالثة، وفي المرة الرابعة وجدت خيالي ينسى أرفف الكتب والدوريات التي تصنع خلفية يجلس أمامها المشارك، منذ أن اكتشف أن معظم المشاركين في التجارب السابقة حرصوا على أن تنقل مساهماتهم عبر كاميرا من غرفة تزدان بصنوف الكتب وصور جوائز وشهادات التفوق الأكاديمية والرياضية ونياشين المجد إن وجدت. تجاهل خيالي أو تناسى تفاصيل الغرفة وعناوين الكتب المرصوصة وسخونة النقاش واختار أن يعود بالزمن. عاد إلى بعيد، بعيد جدا. توالت صور في بيوت أعرفها ثم توقف عند صورة شديدة الوضوح لرجال ونساء بأعمار مختلفة. جلس الجميع على صفي مقاعد حول مائدة مستديرة. الشباب من الجنسين أكثرية في الدائرة الأقرب للمائدة والفتيات الأكثر عددا بين الشباب. كنت هناك في الصورة تسبقني شهرة الفضولي أحيانا والمتشكك دائما.
في تلك الأيام انتشرت بين الشباب هواية غريبة، تحضير الأرواح. روج لها صحافي معروف كان قد زار دولا في جنوب آسيا واطلع على تقاليد وممارسات أغلبها يقع في مكان ما بين الدين والخرافة المطلقة. أقبل المراهقون قبل غيرهم من المنتمين إلى فئات عمرية أخرى على تبني هذه الهواية وممارستها، بعضهم وكثير من الشباب منحوها قدرا معتبرا من الاحترام والهيبة وآخرون اهتموا بالظاهرة وكيف احتلت بسرعة مساحات واسعة من الاهتمام، حتى صارت مصدرا سريا لكثير من التخمينات الرائجة وأحيانا الرسمية عن المستقبل. الحاضرون الجالسون قرب المائدة يسألون عن مصائر ونتائج وعواقب والأرواح تجيب.
لم أفهم دوافع الربط في خيالي بين الظاهرتين رغم أن واحدة منها نسجت وتقررت كوسيلة مثلى لتحقيق التباعد الاجتماعي بين أعضاء مجتمع المفكرين، والثانية لا تكتمل بحضور الأرواح إلا في وجود عدد لا يقل عن ثلاثة من المشاركين. جَمعَهم ربما الاعتقاد بأنه صار في حكم غير المؤكد قطعا وفعلا التنبؤ بالمستقبل. عالم الغد مظلم، بل حالك الظلام. لا فتيل ضوء يكشف عما فيه.
خيالي كثيرا ما يتجاوز فيتجنى….
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق