نشرت في “السفير” 25 تموز 2006
أكدت كوندليسا رايس بزيارتها بيروت ما هو مؤكد: أن هذه الحرب التي تشن على لبنان هي حرب أميركية بقدر ما هي إسرائيلية، بل لعل الحصة الأميركية فيها هي الراجحة.
واضح أن وزيرة الخارجية الأميركية لم تأتِ لتفاوض. وبالتالي فهي لم تحمل عرضاً يمكن قبوله ولو “كمسودة”. بل إن قرارها بأن تأتي إلى بيروت أولاً وقبل تل أبيب يتضمن اتهاماً صريحاً للبنان بأنه “المعتدي”، وبالتالي فهي لم تكن معنية بوقف إطلاق النار إلا كنتيجة لتسليم اللبنانيين بالبنود الأخرى التي تكاد تساوي الاستسلام…
إنها الفرصة المنتظرة منذ أمد بعيد: لقد ضُبط “حزب الله” متلبساً بإطلاق الرصاصة الأولى عبر أسر الجنديين الإسرائيليين، ما يسمح ليس بإدانته فحسب، بل بتكتيل وتجميع كل المطالبين برأسه، في الشرق والغرب، وبين العرب قبل غيرهم، للتخلص منه كقوة اعتراض جدية وذات وهج تتوسع دائرته يومياً.
وهكذا، فإن السيدة التي يُنظر إليها بوصفها “عقل” الإدارة الأميركية قد اختارت هذه اللحظة بالذات للتبشير بولادة مشروع الشرق الأوسط الجديد، ثم قصدت أن تدخل به المنطقة من باب الاعتراض العلني الأعنف: لبنان في لحظة احتراقه بالنار الإسرائيلية.
وهي أتت مزودة بسلاح “الإجماع” الفعال الذي أنتجته قمة الثمانية الكبار في بطرسبرغ، على “مشروعية” الحرب الإسرائيلية ممّا يحصّنها في مجلس الأمن الدولي بحيث لا يتبقى أمام الأمم المتحدة غير أن تهتم بإغاثة مئات الآلاف من ضحايا هذه الحرب، بالتدمير والقتل والتهجير الذي شرّد حوالى ثلث اللبنانيين.
ثم إنها تأتي مدركة أن في إسرائيل حكومة جديدة ـ مدنية ـ الواجهة، وتحتاج إلى “معمودية الدم” لتؤكد جدارتها بأن تكون ركناً أساسياً في مشروع الشرق الأوسط الجديد… وطالما قد وفّر “حزب الله” الذريعة فعليها أن تضرب ضربتها العظمى ضد هذه القوة ذات الوهج عربياً وإسلامياً، لتحصد بعدها النتائج في فلسطين.
ولعل من المفيد أن نضيف أن “الإدارة” تقدّر أنه وقد ضبط “حزب الله” متلبساً، فإن إقدام الحكومة الإسرائيلية على إطلاق حرب تدميرية شاملة قد يسهّل أو يسرّع حدوث تباعد بينه وبين جمهوره العريض، الذي كان يشكّل قوة اعتراض أساسية على استكمال نقل لبنان إلى المعسكر الآخر..
ويمكن تفسير القصد الأميركي من هذا “اللقاء الودي” مع تكتل 14 آذار في السفارة الأميركية كإشارة إلى ما تعتبره واشنطن “قوة احتياط” سياسية قد تساعد الصورة معها على الإيحاء بإمكان توظيف الانقسام السياسي في لبنان لمصلحة المشروع الأميركي الصياغة الإسرائيلي النار، مستقبلاً.
فالحكومة القائمة تمثل “الأكثرية” التي تتجمّع في أفيائها قوى 14 آذار… لكن هذه الأكثرية ـ لا تملك ـ بأصواتها وحدها القدرة على اتخاذ القرار الجذري المطلوب، كما أنها قد لا ترغب في تجرع هذه الكأس المرّة… ولكن الموفدة الأميركية السامية تريد أن تذهب إلى إسرائيل الموحدة خلف قرار الحرب لتبلغها أن الانقسام في لبنان قد يساعد في هذه اللحظة على تحقيق ما كان صعباً إلى حد الاستحالة، في وقت مضى.
ومع أن قوى الأكثرية لها اعتراضات معلنة على نهج “حزب الله” إلا أنها أذكى وأكثر حرصاً على صورتها ودورها من أن تبدو كأنها تعطي ذخيرة للحرب الإسرائيلية.. ولو عبر الدالة الأميركية عليها.
لا وقف لإطلاق النار الإسرائيلية، إذاً فالحرب أميركية.
ولا يبدو أن مؤتمر روما الذي دعت إليه وترعاه واشنطن سيستطيع إنجاز الخطة الجاري الحديث عنها والتي تحمل عنوان إيفاد الآلاف من الجنود الأوروبيين، بسرعة قصوى، ليكونوا “قوة فصل” تعمل على إبعاد مقاتلي “حزب الله” وصواريخه إلى ما خلف شمالي الليطاني، بذريعة أن طرح الأمر على مجلس الأمن وانتظار الإجراءات الروتينية المعقدة لدوائر الأمم المتحدة لتنفيذ قرار مفترض بزيادة عديد القوات الدولية، يتطلب من الوقت ما يمكن أن يُفسد ما يُراد تحقيقه بالسرعة القصوى.
إطلاق النار مستمر، إذاً، وهو حتى إشعار آخر، العامل الأساسي في صياغة المشروع العملي لأي تسوية مقبولة. وبالتأكيد فإن “حزب الله” ليس مغامراً، ولا هو محترف حروب، لكنه ـ بعد كل الخسائر التي تكبدها لبنان في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية ـ لا يمكن أن يقبل بحل يشكل انتصاراً سياسياً للإدارة الأميركية، خصوصاً إذا ما استمرت آلة الحرب الإسرائيلية عاجزة عن تحقيق نصر عسكري ساحق، وهذا ما يكاد يكون مستحيلاً.
وفي انتظار الزيارة التالية للموفدة السامية الأميركية علينا توقع المزيد من النار الإسرائيلية، المزيد من الضحايا، المزيد من التدمير والتهجير، ترويجاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بات له الآن ثلاثة عناوين ترويجية: العراق وفلسطين ولبنان…