عند باب الخروج من المطار الجديد إلى القاهرة التي كانت تبهرك فصارت تحزنك وهي تتمدد مع النيل عبر اريافها الصحراوية مقابل الاهرامات الثلاثة وابي الهول، مع الالتفاف عبر المجمع الخامس في اتجاه جبل المقطم ثم التمدد دونه في اتجاه السويس، مستولدة مدناً جديدة وكثيرة، بعضها في اعلى الجبل “للخاصة”، وفي الطريق اليه “للعامة” اما بين بين فتتوسع الطبقة الوسطى لترفع عديد سكان العاصمة وضواحيها إلى ما يربو على ثلاثين مليونا.. قبل دخول الليل وانصراف المصريين إلى النوم مبكرين لتعزيز.. النسل المبارك.
اما بعد الاندفاع إلى الشارع طلباً للوصول إلى الفندق فيتمثل لك شاعرنا العظيم محمود درويش وهو يهتف بالمدينة التي بناها المعز لدين الله الفاطمي عند “الفسطاط” حيث نصب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب خيمته حين وصل بعد فتح مصر: هل انت مصر؟!
لكن مصر اليوم مثقلة بهمومها مشغولة عنك وعن دورها العربي ووزنها الدولي، فسعر الدولار الاميركي ـ بعد تدخل متعدد من الدولة ـ استقر على 18 جنيهاً، في حين أنك زرت مصر، اول مرة في العام 1962، وسعر الجنيه 3 دولارات اميركية، وكل ما في مخازن القاهرة بضائع مصرية، والقطن المصري الارفع مرتبة في العالم. ومن حول العاصمة وضواحيها ترتفع منارات الالف مصنع وهي تلبي احتياجات المصريين وقد استغنوا عن الاستيراد.
تتصفح الصحف المصرية فيصدمك مستواها وقد تراجع بحدة إلى مستوى صحف الهواة، بأخطائها النحوية والاملائية، قبل السياسة وبعدها.. تستمع إلى نشرات الاخبار التي تبثها محطات خاصة عدة، اضافة إلى المحطات الرسمية، فاذا لا اخبار، واذا النبرة محايدة، بلا روح، تستوي في ذلك اخبار المذابح الاسرائيلية في فلسطين ضد اهلها ثواراً رجالاً ونساء وصبية وفتية بعمر الورد، او الاجتياح السعودي ـ الاماراتي المتوحش لليمن والذي يكاد يذهب بحضارة البلد العريق وشعبه بطل الفتح الإسلامي والاذكى والافقر بين العرب قاطبة، او مشروع “الدولة الكردية” على حساب العراق في شماله والتي تنذر بأزمة خطيرة في المنطقة جميعاً بما فيها ايران وتركيا وسوريا اضافة إلى العراق قبل التدخل الدولي وبعده..
صفحات الصحف بيدر من الاخطاء في الاملاء كما في الصرف والنحو، اما السياسة فمتروكة لأصحابها و”الحياد” افضل غطاء للخطأ.. والخطيئة!
كل الصفحات والنشرات الاخبارية (عدا اخبار “السيد الرئيس”) باردة، بلا روح، نتيجة غياب “الموقف”: حياد تجاه الحرب في سوريا وعليها، وان كانت السياسة الرسمية قد حرصت على استمرار الاتصال مع دمشق، بهدوء، حتى لا تستفز السعودية وبعض الخليج فتندفع إلى معاقبة مصر..
بالمقابل، فان العداء لإيران مستمر، بغير تفسير واضح او تبرير مقنع..
اما مع السعودية والامارات (خاصة) وسائر دول الخليج، ما عدا “العدو القطري” فالعلاقة دونية ويشعر معها المواطن المصري بالإهانة، اذ هدرت فيها وعبرها كرامة مصر ودورها، ولا يستطيع هذا المواطن أن “يبلع” المهانة التي رافقت طريقة تصرف أعرق دولة في العالم في قضية الجزيرتين: تيران والصنافير، إلى حرب اليمن، إلى التدخل من فوق رأس مصر في ليبيا، إلى اضمحلال دور الجامعة العربية، آخر موقع شبه مؤثر لمصر، عربيا، إلى انقلاب “الحكم الاسلامي” في السودان على مصر بعد “مصالحة” اميركا معه.
الخوف من الغد يظلل المصريين أكثر مما هو من الدولة واجهزتها العديدة، وطموح النخبة من الشباب هو الهجرة إلى أي مكان، وقد زادت رغبة الاقباط خاصة في مغادرة مصر إلى أي دولة في اوروبا مع ارجحية دائمة للولايات المتحدة. ثم أن الخوف الامني عند المصريين لم يعد يمنعهم من التساؤل عن حقيقة النفع من قناة السويس الثانية، وكذلك عن ضرورة العاصمة الادارية التي يبنيها الجيش على طريق القاهرة ـ السويس، وقد دفع المصريون كلفة الجميع دونما اقتناع بجداوها الاقتصادية، في هذا الزمن المختلف عن عصر حفر القناة كوسيلة تواصل تجاري- صناعي- وعسكري استراتيجي بين الشرق والغرب.
اسوأ ما في الامر: اختفاء “النكتة” في مصر، التي كانت الوسيلة الشعبية الممتازة للتعبير عن الموقف السياسي من الحكم، ومن الازمة الاقتصادية او من احداث العالم..
الحكم مفرد، لا شريك له
النخبة تغادر إلى أي مكان، ولو إلى الصمت في قلب الاحساس بعبثية الكلام فضلاً عن الخوف من عواقبه..
لم تمت روح الفكاهة، بل هي ما تزال تستولد النكتة من قلب البؤس، لكن التورية هي الغالبة الآن، وان كان الجميع يفهم المقصود..
المصريون يتزايدون حتى قاربت اعدادهم المائة مليون، لكن الدخل في تراجع دائم، يكفي أن سعر صرف الدولار قد ناهز ذات يوم العشرين جنيهاً، وبالتالي فان الدخل الفردي قد هوى نزولاً، وبات من الترف أن تدعو مجموعة من الاصدقاء إلى غداء او عشاء ولو في مطعم شعبي..
الفقر يتعاظم بقدر ما يتعاظم عدد السكان..
ولا حلول جدية، ولا شركاء للحاكم الفرد المستغني بنفسه عن الآخرين كل الآخرين، والذي يضيق صدره بالنقد والذي يرى في نفسه ما لم يكنه جمال عبد الناصر، او حتى محمد علي باشا وابناءه واشهرهم ابراهيم الذي هزم ذات يوم الوهابية واحتل مركز قيادتها في الدرعية..
اعاد الله مصر إلى مصر، حتى لا يظل شاعرنا العظيم محمود درويش يسأل ونسأل معه الجندي المصري العائد من حرب اكتوبر ضد اسرائيل: هل انت مصر؟ هل انت مصر؟!
تنشر بالتزامن مع السفير العربي