مع الدوي المهيب الذي أعلن اغتيال جورج حاوي، صبيحة أمس الثلاثاء الواقع فيه 21 حزيران 2005، انتشر الذعر في أربع رياح لبنان، ورفرف الموت بأجنحته فوق كل المدن والقرى والدساكر بعيدها عن بيروت أو المتصل بها كضاحية. بكت الأمهات في البيوت وهن يهرعن إلى الهاتف للاطمئنان عن الأبناء في المدارس، وأعول الأطفال وهم يغرقون في خوفهم من ذعر أمهاتهم… أما الرجال فقد وجموا، في عيد الأب حيثما كانوا، وهم يهجسون بمن تراه من بينهم يكون الضحية التالية على قائمة الموت التي تبدت مفتوحة كشبكة شيطانية ممتدة حتى لتشمل الجميع من غير استثناء!
لكأن لبنان صار أرض الموت بعدما امتلأ بأشباح القتلة الذين عجز اللبنانيون عن تحديد أهدافهم المحتملة، وبالتالي عن مقاصدهم الفعلية التي لا تتخذ طريقها إلا عبر الدم!
فأن تمتد يد الاغتيال إلى جورج حاوي، بالذات، بعد قافلة الشهداء الذين خسر لبنان بعض معناه (وبعض عروبته) بفقدهم، فمعنى ذلك أن كل مواطن مهدد، بغض النظر عن معتقده وهويته السياسية..
فجورج حاوي كاد يكون متفرغاً لمحاورة الآخرين، داخل حزبه كما داخل الأحزاب الأخرى، وفي مواقع القيادة، داخل لبنان وفي جواره القريب والبعيد، بدءاً من سوريا وحتى اليمن، وانطلاقاً من فلسطين وحتى السودان، مروراً بمصر والجزائر والمغرب، قبل أن نصل إلى أحزاب الحركة الشيوعية في العالم، انه لا يمكن أن يشكل مصدر خطر على نظام أو تنظيم، أو جماعة أو مجموعة. إنه لا يملك إلا رأيه… ورأيه مفتوح على الاجتهادات، وهو قابل للنقاش دائماً، وقابل لأن يتطور فيتحول في اتجاه التسوية. إنه ملك التسويات والحلول الوسط، بل انه مبتدع مثل هذا الخط حتى في القضايا المبدئية.
إنه نموذج لشيوعي فذ، ناضل مع كوكبة من الحالمين بغد أفضل، ليتخطى الحزب إطار الشغيلة والكادحين، بالمفهوم الأممي، فيكون الحزب الوطني العربي، بقدر ما هو ماركسي المنطلق والمبادئ الفكرية. ولقد نجح، مع سابقيه ورفاقه من الذين انفتح وعيهم على هوية أرضهم وناسها، في إسقاط شيء من “الهجانة” كانت لاحقة بالحركة الشيوعية العربية… وتمكنوا، مجتمعين، من “تعريب” هذه الحركة، ومن التعميق لجذورها في المجتمعات العربية بحيث لا تبدو مستفزة لمعتقداتهم ولعميق انتمائهم إلى أرضهم وتاريخهم وتراثهم الديني والثقافي النابع منها.
جورج حاوي؟.. ولكنه لم يكن مصدر خطر إلا على موقعه التنظيمي وسمعته السياسية، فاتّهم كثيراً، وأدين بخروجه على الانضباط الحزبي، وعوقب على اجتهاداته، غير مرة، بل لقد بلغت الاتهامات حد اتهامه بأنه عميل للإمبريالية!!
لقد كان يختزن ذلك القلق الفذ الذي لا يملكه إلا الباحث عن يقين، وبإصرار بل عناد لا يتحلى بمثله إلا المقاتل من أجل التغيير، ولو على مراحل.
جورج حاوي؟! ابن جبل لبنان، رافع راية النضال من أجل فلسطين، الساعي إلى تسوية ذات أفق وطني وقومي مع سوريا، حادي الثوار في اليمن، المبشّر بالعروبة في ليبيا، مهدئ اندفاعة “بطل القادسية” حتى لا يتسبب في تدمير العراق ومن بعده الأمة.
جورج حاوي؟! الذي قاتل القوى التي تصدت لحركة التغيير في لبنان، ثم انقلب إلى محاور ممتاز لها بعدما عادت إلى وعيها، مناصر الثورة الفلسطينية من أجل الوصول إلى فلسطين بقوة السلاح التي قد تأتي بالحل، المفاوض الذي لا يتعب مع القيادة السورية لترشيد قرارها حول لبنان.
جورج حاوي؟! كاتب البيان الأول (مع محسن إبراهيم) لأول عملية فدائية نظمها ونفذها شيوعيون ضد عساكر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في أيلول 1982؟!
جورج حاوي؟! المشاكس، المغامر، المجادل، المحاور، المتنقل، المتبدل، المتحول، المتجول بين الأفكار والأحزاب والأنظمة بين أدنى الأرض في المعسكر الاشتراكي العظيم وأقصاها، في المجتمع الأميركي وصولاً إلى كوبا كاسترو وتشي غيفارا… ثم إلى واشنطن ومنتدياتها، محاضراً ومجادلاً فذاً..
جورج حاوي؟ الشيوعي الذي أخذه الإحباط إلى القول بضرورة تجنب المواجهة حتى الانتحار مع الرأسمالية وهي في ذروة انتصارها، وأخذته الخيبات والانتكاسات القومية إلى التسليم بالكيانية لطمأنة الطوائف الخائفة أو المخوّفة حتى لا تهدم الوطن على رأسها ورؤوس شركائها فيه..
جورج حاوي؟! أمثل هذا الرجل الأعزل إلا من اجتهاداته وأفكاره وأهوائه وإصراره على التجريب، وعناده على الحوار مع رافضه، المتنازل حتى يتمكن، فإذا تمكّن أخذ شريكه إلى الحل الوسط..
جورج حاوي… أحد أبرز الشهود، وصاحب الخبرات النادرة في أسباب النجاح والفشل في الحركة الوطنية العربية، وصاحب الاجتهادات غير المسبوقة في “توطين” الحركة الشيوعية وتعريبها، بالحوار والمجادلة والابتكار وقوة الحجة ولو اضطره الأمر إلى المبالغة وإلى التهويل بمخاطر رفض التسوية والإصرار على معاندة المحيط..
أمثل هذا الرجل المسالم الذي لا يحمل غير أفكاره واجتهاداته يستحق القتل اغتيالاً، وفي وضح النهار، وأمام منزله؟!
جورج حاوي.. أحد أظرف الناس، وأحد اثنين تحمل بصماتهما مرحلة العمل في إطار الحركة الوطنية بحيوية فائقة، وهي تواجه أقسى الظروف، بالنكتة، أو التشنيعة، التي كثيراً ما فتحت باب الحوار مع الخصم، وكثيراً ما أسقطت الهالات المصطنعة من فوق رؤوس قيادات »استحدثت« على عجل، وكادت تأخذ الناس إلى انحرافات دموية ومنعطفات سياسية خطرة!
ليس مبالغة القول إن جورج حاوي بكل اجتهاداته، المصيب منها والمخطئ يكاد يكون أهم شيوعي عربي، ليس فقط لأنه “صهر” المؤسس أرتين مادويان، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي اللبناني، فتلميذ فرج الله الحلو، بل لأنه اقترب حتى كاد يندمج في الحركة القومية العربية وأسهم في تطوير منهجها الفكري، مهتدياً بقيادة جمال عبد الناصر في مواجهته الفذة للاستعمار القديم ولمشروع التوسع الإسرائيلي، ثم متعلماً من تجربة النضال الفلسطيني، ومن صمود القيادة المميزة لحافظ الأسد، ومن شقاء الدرس في جنوب اليمن، ومن بؤس التجربة الصدامية في العراق، ومن تيه المغامرات الفكرية لمعمر القذافي..
جورج حاوي… الذي سعى إلى التفاهم بالحوار مع رجل الدولة الذهبي الذي اكتسبت صورته إطارها البهي الكامل مع استشهاده، الرئيس رفيق الحريري، والذي أقام جسراً مع المقاومة ممثلة بـ”حزب الله”، واقترب إلى حد الشبهة من “قرنة شهوان”، وحاول إقامة حوار جدي مع العماد ميشال عون، وجادل رفاقه في الحزب الشيوعي حتى أتعبهم فاقترح عليهم صيغة المتصل المنفصل، الملتزم مع اجتهاد، حتى كاد يكون قاسماً مشتركاً مع الجميع من دون أن يستعدي أحداً.
جورج حاوي يكافأ بالاغتيال؟!
لقد سقط الأمان عن رأس جميع اللبنانيين.
إن لبنان في خطر أعظم من كل ما شهده في الحرب الأهلية.
انتباه أيها اللبنانيون، إن وطنكم في خطر، وأنتم جميعاً على قوائم الشيطان الذي يكره الشمس والحرية وفرح الأطفال.
نشرت هذه المقالة في “السفير” في 22 حزيران 2005