هذا الذي حدث في مدن إيرانية عدة على مدى أسبوعيْن يستوجب التحسب لمفاعيله من جانب الأطياف التي ترعاها إيران، وبالذات الطيف اللبناني بجناحيْه اللذين يشكِّلان تحالفاً مصلحياً أكثر منه مبدئياً: جناح “حزب الله” المسلم الشيعي وجناح “التيار الوطني الحر” المسيحي ـ الماروني الذي كان قطبا الجناحيْن رئيس الجمهورية الحالي العماد ميشال عون والأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله أبرماه في لقاء كَنسي. وإلى هذيْن الطيفيْن هنالك الطيف الفلسطيني المتمثل بـ”حركة الجهاد الإسلامي” و”حركة حماس” اللتين أطبقتا على قطاع غزة ليكون ساحة أرضهما الفلسطينية. كما ينساب على الطيف الحوثي وعلى الأطياف العراقية الميليشياوية المنضوية تحت قيادة “المرشد” المدني الثوري قاسم سليماني.
موجبات هذا التحسب أن شرارة الإحتجاجات التي بدأت قبل ثلاثة أسابيع في طهران وفي العشرات من المدن الإيرانية كانت برغم الإستهانة من جانب المرشد خامنئي ووصْفها بأنها “حالة أمنية وليست سياسية”، ومن جانب الرئيس روحاني الذي إعتبرها وكما لو أنها لم تحدث، تعبيراً عن حالة من الغضب المتراكم في النفوس نتيجة أن النظام يرى بالتدعيم السخي لأذرعه الخارجية ما يشكِّل دعامات لزعامة يتطلع إليها وأن هذه الأذرع ومعها الإصرار على تحقيق نووية الجمهورية الإسلامية كفيلة بتحويل ما هو حلم إلى واقع. وهذا الجنوح نحو إمتلاك النووي وإبقاء التدعيم السخي للأذرع الخارجية أخذا الكثير من الإهتمام بالأحوال الشعبية التي إزدادت تفاقماً تحت تأثير عقوبات أرادها المعاقب الأميركي ضد النظام لكن الشعب ليس هو الذي أكل الحصرم.
في البداية وظَّف النظام ورقة معاداة أميركا وفي تصوره أن الشعب سيكون فخوراً بأن الدولة الإيرانية الصغرى تتحدى الدولة الأعظم، وقال رموز في النظام عن هذه الدولة ورئيسها دونالد ترمب كلاماً لا يُطعم خبزاً ولا يروي عطشاً ولا يزوِّد خزان سيارة بالوقود. وعندما سمع الإيرانيون أو قرأوا ما قاله المرشد علي خامنئي لرئيس وزراء اليابان شينزو آبي، الذي زار طهران يوم الجمعة 14 يونيو/ حزيران 2019 ، حاملاً رسالة من الرئيس ترمب إلى المرشد تهدف إلى ترطيب الأجواء بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني، فإنهم شعروا بخيبة أمل كانوا يرنون إليه على أساس أن الوسيط دولة ذاقت في عقود مضت مرارة التحدي لأميركا وأنها بعدما التأمت جراح الزمن الماضي برمزيْه المؤلميْن (قصف الطيران الياباني لقاعدة عسكرية أميركية والرد على ذلك بعقوبة نووية) فإن هذه الدولة الآسيوية أعادت بناء نفسها وباتت إحدى كبيرات العالم إقتصادياً وتقنياً وإلكترونياً. وكان الرئيس الياباني بمسعاه هذا يفترض أن المرشد خامنئي سيأخذ في الإعتبار حيادية الدور التوفيقي الذي يقوم به وأنه قد يقرأ في هذا الدور تساؤل صاحب المسعى: لماذا بدل هذا التركيز على النووي والصواريخ والتدخل في شؤون الآخرين بإصدار أوامر إرسال الطائرات المسيَّرة تستهدف مطارات مدنية ثم مراكز ثروة نفطية لا يتم تخصيص نسبة من عوائدها للمساعدة في بناء مدارس وجامعات ومستشفيات يحتاجها المسلمون؟ ولماذا بدل الإنفاق على جماعات وأحزاب تدين بالولاء لكم على حساب قضايا أوطانهم وتردد الشعارات نفسها التي تطلقونها وتعطل محاولات جادة لتحقيق إستقرار تنعم به أوطانهم؟ لماذا لا توظفون خيرات الثروة النفطية وغيرها من ثروات طبيعية زراعية في تطوير الصناعات المدنية الخفيف منها والثقيل وبما يجعل شعبكم ممتناً لكم ثم شيئاً فشيئاً تصبح إيران مثل اليابان التي أزالت الركام الناشئ عن التحديات وإفتعال العظمة وباتت كما ترونها اليوم، ومثل كوريا الجنوبية التي تبقى بصناعة السيارات والإلكترونيات والسياسة الرشيدة أهم بكثير من شقيقتها المرتدة التي تتقدم نووياً وصاروخياً وتتراجع بسرعة قياسية نحو وضع لا يستحقه شعب. بل وأكثر من ذلك لماذا لا تتأملون في ما تفعله دول نفطية مثل السعودية ودولة الإمارات اللتيْن توظفان ثروة النفط في التنمية والتطوير ومواكبة التقدم الذي تعيشه دول غير مسكونة بأحلام نهايتها كوابيس.
الأرجح أن مثل هذه القراءة لم تَحدُث وغادر الرئيس الياباني طهران آسفاً ومستغرباً رد فعل المرشد على الرسالة التي يحملها من ترمب وبالذات قوله “لا أعتبر ترمب أهلاً لتبادُل الرسائل…”.
هذا الكلام تلقفْته الأذرع العراقية والحوثية و”حزب الله” وتلك الأذرع ذات العضلات الرخوة في غير أمكنة، فأمطرت أميركا بلعنات الموت لها وإحراق عَلَمها تنفيذاً بتلقين قيادات تلك الأذرع توجيهات تراوح بين رفْع مستوى الكلام عن السياسة الأميركية إلى درجة التهجم أحياناً إلى إعتماد أسلوب الإبلاغ الصاروخي على نحو ما حدث ليل الإثنين 23 سبتمبر/أيلول 2019 قرب مبنى السفارة الأميركية في بغداد إستكمالاً لدعوة لافتة وموضع إستغراب صدرت عن المرشد لدى إستقباله في طهران يوم السبت 6 أبريل/ نيسان 2019 رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي (وكان مضى ثلاثة أشهر على الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس ترمب مساء يوم الأربعاء 20 ديسمبر/ كانون الأول 2018 إلى قاعدة “عين الأسد” التي تتمركز فيها قوات أميركية في محافظة الأنبار غرب العراق) وإبلاغه بعبارات الآمر الناهي “يجب أن تقوم بما يدفع الأميركيين إلى سحب قواتهم على وجه السرعة لأن طرْدهم سيصبح صعباً عندما يستمر وجودهم العسكري لأمد طويل في أي بلد يدخلونه…”. كأنما الوجود الإيراني بتنوع مشتقاته في سوريا ولبنان وغزة والعراق واليمن يندرج ضمن المحلَّلات!
هذه بعض ملامح الحالة الإيرانية التي سبقت الإنتفاضة الجديدة الناشئة شكلاً. تصعيد كلامي على أميركا رداً على عقوبات متدرجة من جانب إدارة الرئيس ترمب. رفْع نسبة الإعتماد على الأذرع الخارجية بما لا يخفف من أزمة كما الحال في لبنان ورفض أي تسوية موضوعية في اليمن المخطوف ومن أي محاولة من جانب العراق الساعي إلى إستعادة دوره وسيادة قراره ومن أي فرصة لترميم الحالة السورية من خلال رفْع اليد عن إرادتها الوطنية بدل هذا التمدد والإكثار من ربط نظام عربي بجنازير فارسية إلى جانب الأسلاك العثمانية وكثرة القواعد الروسية حتى أن سوريا باتت أرضاً مستباحة لقواعد الذين يرومون وضْع اليد وتربيط الإرادة بدل مد قيادتها بمساعدة عابرة.
كل هذا يحدث فيما الإيراني الحائر في أمر معالجة النظام لأحوال الشعب في معظم شرائحه والضغوط الثقيلة الناشئة عن سياسات النظام من جهة والعقوبات الأميركية في المقابل، يتابع بإهتمام الحراك الذي يحدث في أكثر من بلد عربي وبالذات حيث للنظام الإيراني الذراع المستقوية بالسلاح وبطلاقة اللسان. يتابع ويتطلع إلى أن يعبِّر بالطريقة نفسها التي إعتمدها اللبناني الموجوع من تناقضات ثنائية الدولة ومن الفساد والتلاعب بأقدار الشعب والوطن، والعراقي الأكثر معاناة من الوجع وبالذات الوطني منه. وحيث في الصدور ضيق شديد فإنه ما دام لا فضائيات تبث ليل نهار وقائع، كما الحراك اللبناني على سبيل المثال لكي يعبِّر من خلالها عن سوء حاله فلماذا لا يفعل كما العراقي الذي تجاوز عصبية الطائفة للتعبير عن التوق إلى أهمية السيادة والإنتماء العروبي من جهة وإعلاء الصوت في الوقت نفسه، متأثراً بالذي ما زال يفعله أخوه في الإحتجاج في لبنان من سوء أفعال الفاسدين وتعالي نبرة أُولي هذا الحزب أو ذاك التيار أو تلك الحركة أو تلك الكتلة أو… أو…
ومن دون أن يستوقفه عدم حضور الفضائية التي تمارس الدور كما الفضائيات اللبنانية أطلق العنان لغضبه وإقتحم “المحرمات” من صُور قيادات لها حصانة تقديسية ومصارف ومراكز أمنية وحرسية. وبدا في حراكه الذكوري ـ الأنثوي وبكامل الوعي يجمع بين المدينة الروحية (على نحو ما سبقه إلى ذلك في كربلاء أخوه العراقي) والمدن والبلدات التي إستعصى على المواطنين فيها تفسير كيف أن إيران ذات الرقم الأوبيكي المهم إنتهت كمثيلتها ذات الرقم المماثل فنزويلا نتيجة العناد وترجيح كفة التعظيم على كفة تأمين العيش الكريم للشعب، وكيف أن الإيراني ليس فقط سيقف في الطوابير ساعات لتموين سيارته بالوقود وإنما يفاجأ بزيادة على سعر البنزين بما لا قدرة له على التحمل خصوصاً أن الصبر عنده لم يعد جميلاً وأن حاله باتت على النحو الذي أوجزه الشاعر العربي “كالعيس (أي الإبل) في البيداء يقتلها الظما… والماء فوق ظهورها محمول”.
هنا نجده يقول ما كان محظوراً قوله بصرف النظر عن خشية من عواقب القول أو لأنه لا يريد جرح مشاعر الطيف اللبناني الذي تنفق عليه الجمهورية الإسلامية والطيف الفلسطيني الذي ينال حصته من النفقة ناهيك بالطيف العراقي الميليشياوي، والطيف السوري الذي يتواصل إستنزافه ونزفه والطيف الحوثي المستضاف حديثاً في مجموعة الذين “يناضلون” من خلال البوابة الإيرانية من أجْل القدس وتخليصها من الإحتلال الإسرائيلي.
وما قاله الإيراني الذي كسر حاجز الخشية ونزل شاهراً غضبه ممعناً خدشاً في هيبة كبيريْ الشأن الإمام الخميني والمرشد خامنئي، كان إن معاناته في بعض أسبابها هو الإنفاق على الأذرع الخارجية مع تسمية الأذرع بأسمائها. هذا يعني أن على هذه الأذرع أن تأخذ التسمية التي جرى إرفاقها بإحراق صُور كبار القوم وإستبدال العَلَم الدخيل بالعَلَم الوطني، في الإعتبار. فما هو قائم الآن مرشح للزوال أو للإزالة مع التذكير بالذي جرى عندما قامت الجمهورية الإسلامية على أنقاض إزالة الأمبراطورية الشاهانية. وعندها سنرى من حالات التعبير عن الثأر من الأذرع بالتدرج أو على وجه السرعة ما يفترض واجب التحسب منذ الآن تدارُكه.
والتدارك يكون بقراءة متأنية لما نعيشه منذ بضعة أشهر وكيف أن اللبناني الملتزم بالخط الإيراني بات أقرب إلى دنيا الشتات وأن الفلسطيني المستحوذ على غزة سيجد نفسه أضاع الإنصهار في السلطة الوطنية من دون أن تُكسبه الثورة الإيرانية الرهان. ويا خشيتنا من ثارات محتملة من إيرانيي زمن ما بعد النظام الحالي الذي لو إستلهم تجربة اليابان لكان الآن نموذجاً مضيئاً في المنطقة بدل الترويج لهذه العتمة الثورية التي تولِّد حراكاً شعبياً يؤسِّس لبناء نظام جديد أساسه التبصر وتقديم الولاء للوطن على تقديس الذات… وإلى درجة وضْع البلاد والعباد في مهب إرادات لا يميز أصحابها بين الحق والباطل.
وتكراراً لا بد من التحسب لعداوات محتملة تليها ثارات تلفح وجوهاً في لبنان ومصدرها سوريا الجديدة بعد حين وإيران بعد صبر جميل. فما بعد خدْش الهيبة يصبح المستعصي حدوثه ممكناً. ومَن يعش يرَ.