تتعامل إسرائيل مع القضية الفلسطينية بقسوة لا متناهية ووحشية تتجاوزان ممارسات النازية الهتلرية، وذلك بسبب الشعور الكامن لدى يهود إسرائيل والعالم بأن وجود دولتهم غير شرعي وغير مبرر أخلاقياً وسياسياً، ولا يتناسب مع تطورات التاريخ الإنساني، إلا لخدمة أهداف تتجاوز ما يسمى “المسألة اليهودية”.
الضمير اليهودي الإسرائيلي مجبول على الجرائم ضد الإنسانية، لذلك يشتد الشعور لديهم بعدم الإطمئنان الى النفس، فلا يبقى لديهم إلا مسألة الأمن الذي يدركون أنه لم ولن يتحقق لهم في فلسطين، وأن وجودهم فيها قضية خاسرة مهما تأخر ميعاد خروجهم منها، سلماً أو حرباً. فهي ليست أرض ميعاد إلا مجازاً، ولا الوعد المعتبر أنه ممنوح من الله إلا ايديولوجيا زرعتها في أذهانهم الرأسمالية العالمية. لا يطمئنون لوجود العرب على شواطىء البحر الأبيض المتوسط. هذا البحر الذي يتكلم أكثر من نصف سكان شواطئه اللغة العربية، ومؤدى اللغة وجوداً عربياً لا يتزحزح، حيث اختار الغرب الأوروبي والأميركي أن يعتبره خطراً.
لن يستطيع يهود إسرائيل طمس قضية جعلت منهم أداة (على ما يقال). إذ حاولوا الهروب من اضطهاد الغرب لهم، لينتقلوا من مواطنين في بلدانهم إلى أداة خضوع وخنوع له (للغرب)، وليصيروا بعد ذلك عبيداً له، مرتهنين بقراراته ارتهاناً يُفسد علاقتهم بالعالم وبالوجود الإنساني. فالصهيونية ترتكب جرائم الحرب وحروب الإبادة ضد العرب ولا سيما شعب فلسطين، برغم أنه ليس في التاريخ ما يبرر حقدهم على العرب، بل هناك ما يبرر الحقد على الغرب، حقداً وجودياً، ولو كان يُكلف الغرب دعماً لهم بالمال والسلاح والتكنولوجيا وبما يفوق حاجة إسرائيل إليه. فلهذا الغرب أولوية إسرائيلية على نفسه، لذلك يربط وجوده بها. فالمسألة ليست له ولإسرائيل الأمن وحسب، بل الحفاظ على الوجود. فما يقدّمه الغرب لأوكرانيا سقفه النصر على روسيا وإملاء الشروط، بينما ما يُقدمه لإسرائيل سقفه الوجود. الأمن الإسرائيلي يعني الوجود لا تحقيق الشروط للنصر؛ وهم يعلمون أن إزالة الوجود العربي ومن ضمنه الفلسطيني مرهون بإزالة لغتهم، وهذا غير ممكن على المديين القصير والطويل. فما كوّنه التاريخ منذ أقدم العصور لا تفكفكه مغامرات جيو-استراتيجية. وستبقى الهزيمة العربية مؤقتة برغم أنها صارت ممتدة عبر العديد من العقود. والحديث أجدر بأن يكون بمفردات القرون والمدى الطويل؛ علماً بأن أمماً اندثرت، لكن ما فعله الغرب بأمم أميركا اللاتينية والوسطى سوف يكون صعباً، بل مستحيلاً عندنا، فإن أمماً على هامش التاريخ ليست في وضع أمة هي في صلب التاريخ، بل ما كان التاريخ ممكناً لولاها. فالأمة العربية هي الوجه الآخر للغرب (أو العكس). وزوالها يعني زواله. لا يستمر الغرب ذاته دون استمرار العرب كأمة يحتمل وجودها في دولة أو كدول. يستدعي زوالها نهاية النظام العالمي.
قال الشاعر:
الله يشهد أنّا لا نُحبّكم ولا نُحبُ الذي منّا يُحبّكم
في كل بلدان العالم يتعلّق الأمن بالنظام لا بالوجود. إذ يكون كيان الدولة أمراً مسلماً به، بينما نظام الحكم هو الذي يكون موضوع أخذ ورد وشد حبال بين الأطراف المتنافسة على السلطة. الدولة مصدر الشرعية، ومرجعها الوحيد مجتمعها أو شعبها. وبذلك يكون المجتمع مصدر الشرعية. أما في إسرائيل، الدولة القائمة على الاغتصاب، فإن مصدر الشرعية ينبع من خارجها، لا من مجتمعها. هي تتهاوى كدولة لولا الارتكاز على الخارج، وهو في حالتها الغرب الإمبريالي الذي لا يتوانى عن دعم دولة استعمار استيطاني تملأ الفراغ الروحي الذي طرد منه؛ إذ كانت حروب التحرر الوطني في البلدان التي كانت تشكل عالماً ثالثاً بمثابة تدمير للأكاذيب والأوهام التي اعتنقها الغرب لتبرير تسلطه ومنها رسالة “نشر المدنية” وعبء “الرجل الأبيض” و”المصير المحتوم” (الواقع والتفوق). كلها أكاذيب وأوهام شكلت منطقاً دفعه هتلر الى أبعد حدوده ومراميه، فانفجر في وجه أصحابه. فاندلعت الحرب العالمية الثانية بين النازية وأعدائها الذين ساءهم انكشاف الليبرالية الإمبريالية. ليس هتلر إلا ابن ليبرالية الغرب غير البار، إلا أنه لم يفهم الغرب وحضارته جيداً. وها هو هتلر يُستبدل بدولة إسرائيل التي تحمل نظرية الشعب الاستثنائي، (شعب الله المختار)، من “مدينة على جبل” الأميركية، إلى عنصرية النازية القاتلة، الى شعب الله المختار مرة أخرى لدى إسرائيل.
لا يخدم الغرب إسرائيل بل يُودعها كل آثامه وما اقترف بحق الإنسانية؛ أرض صغيرة لا تتسع لكل ذلك، فتتوالى الانفجارات فيها. تبدو إيران كاريكاتورية في أخذها من كل هذا وذاك، بين التفاوض والعداء، بين الحرب والسلم. فلا تسلم من نقد الغرب ولا تجريح العرب. صدّق الشاه بدعة مقولة الشعوب الآرية، وتصنيف الشعوب إلى أعراق، حيث لكل شعب عرق ينتمي إليه. وحمل الصفويون التشيّع الى غير ما أريد منه في البداية، وجاء الخميني ليرتق ما تمزّق بمقولة “ولاية الفقيه” التي تحمل في طياتها المنطق الانغلاقي نفسه. فكان الصراع بينها وبين إسرائيل، والغرب عموماً، على ما هو دفين ومضمر أو مكبوت. فأزيح العرب عن صراع لا يفهمونه ولا يستطيعون أن يكونوا جزءاً منه، إذ أن ثقافتهم الموروثة قامت على مبدأ “المجتمع المفتوح”، حيث تتكامل الشعوب وتتفاعل دون تمييز وتمايز، فتحوّل الصراع حول فلسطين إلى تنافس بين فريقين متشابهين في أعماق الذات، وإن اختلفا فيما يظهر. وكان مبعث ذلك رغبة النظام الإيراني في التمايز في مجال إسلامي أساسه عربي، لا يدع إمكانية للتمايز، إذ لا فضل لواحد على الآخر، أو لمجتمع على مجتمع آخر، إلا بالتقوى وما يقدمه للإنسانية، لا بما تقدمه الإنسانية له. وهذا يذكرنا بالرئيس كينيدي القائل “فكّر فيما تقدمه لبلدك لا فيما يقدمه بلدك لك”، على بعد ما بين الحالتين عن بعضهما واختلاف مجالات القول والمقولة. نظرية الحق هي في جوهرها نظرية الاستثناء والاستعلاء.
أسلحة القتل والتدمير والأموال لدعم الجرائم الإسرائيلية كلها تأتي من الغرب؛ القتل عشوائي. التدمير يطال مناطق سكنية بأكملها. حرب تشنها إسرائيل دون رادع أخلاقي. الضحايا يُقتلون ليس لأنهم موضع شبهة بل لأنهم وجدوا حيث لا تريدهم إسرائيل. ما يُسمى قوانين الإنسانية والقيود القانونية على الحرب لا يؤبه به. تُزاح شعوب ومجتمعات بأكملها لمجرد أن يقول لهم صاحب الحرب انزحوا. لا مشيئة للنازحين، عليهم اتقاء آلة الحرب الشرسة والمجنونة؛ جنون هذه النازية لم يبلغه هتلر ومن معه؛ لا يحق لهذه الشعوب الدفاع عن أنفسها، ذلك أن أمن إسرائيل هو المقدس، وكل مقاومة له تُعد تعدياً على هذا الأمن. ولا يحق لهذه الشعوب النطق، فتهمة اللاسامية جاهزة، وهي معنية بمقدس آخر. ونقد إسرائيل بنظرهم نوع آخر من اللاسامية. اليهود ضحايا المحرقة، وضحايا اليهود أكثر بكثير، لكن لا يحق لهم الاحتجاج. فالمحرقة مقدس آخر يتيح لصاحبه فعل ما يشاء ومتى يشاء. العنصرية بنظرهم يمارسها كل من ليس في عداد الشعب المختار. العقوبة الجماعية ليست حصيلة عنصرية الشعب المختار، بل هي ما يتعلّق بشعوب لا يحق لها الوجود. وجود العرب عنصرية، ووجود الفلسطينيين داء يجب أن يُستأصل؛ التوليفة الايديولوجية جاهزة لإدانة الضحايا، وكل ما يتسم به موقف الغرب هو دفاع عن القاتل وعن الضحية؛ الجرم الذي ارتكبته الضحية هو مجرد الوجود؛ الفعل الذي يرتكبه القاتل بكل وحشية غير مسبوقة دفاع موهوم عن الإنسانية؛ حتى أن ما قيل عن المشتبه بأنه بريء حتى يدان هو أمرٌ لا يُعبأ به. فالقتل عشوائي والتدمير شامل والقانون، كل قوانين الدول والقوانين الدولية، هي في خبر كان. الغرب يستمتع بانتصارات على شعوب عزلاء؛ التكنولوجيا وتطوراتها تزوّده بمزيد من القوة ليزيح عن كاهله وجود الرجل غير الأبيض، وهو العربي تحديداً، والمسلم عموماً؛ على كل حال الدين ليس موضع نقاش، إذ أن للقاتل دين واحد خارج كل الأديان، وهو القتل والتدمير، كما هي الأوامر الصادرة في التوراة بعهدها القديم. والغرب المسيحي لا يستخدم العهد الجديد إلا للدعاية؛ كتابه المقدس والمرجوع إليه هو العهد القديم، بكل ما فيه من عهر ووحشية.
ليس في العالم دولة قامت على ماض انقطع منذ أكثر من ألفي عام. هذا إذا كان هذا الماضي صحيحاً. فهي أسّست وجودها على ايديولوجيا، مجرد ايديولوجيا دون زمان ومكان، ودون تاريخ أو جغرافيا. وهذا لا يعني أنها لم تنجح في فرض أكاذيبها على العالم. وكان وما يزال العرب ضحية ذلك. لا تنبع الشرعية من الايديولوجيا بل من الوجود. فاحتاجت إسرائيل إلى دعم خارجي فاض عن حاجتها لوجود طبيعي، بمعنى مؤسس على التاريخ والجغرافيا، وإلى كم هائل من العنف والشراسة والوحشية، وما كان الأمر ممكناً لولا ذلك الدعم الخارجي الذي هو بالأساس لديه حسابات تاريخية مع العرب، أراد تصفيتها بالعنف والإكراه.
لا ينبغي لنا نحن العرب أن نُبرّر عجزنا وهزيمتنا، وهذا الحديث لمكان آخر. لكن ما يقال هنا محصور بالإشارة الى أن الغرب تقوده إسرائيل، وما يجعله ينقاد هو حقد تاريخي كان يفترض زواله مع الحداثة، لكن حداثتهم هي قرون وسطى بالمقلوب. إذ كانوا يضطهدون اليهود فصاروا الآن ينقادون وراء الصهيونية. علماً بأننا لا نستهين بصهيونية الغرب المسيحية التي تبرز الآن كأحد معالم الثقافة الغربية.
لا يستطيع الغرب قبول أن أرض العرب للعرب، وذلك أمر لا تُغيّره ظروف عابرة. “فلا بدّ من صنعاء.. وإن طال السفر”، كما قيل في الأمثال العربية.