من قبل أن يكتمل النصر بتحرير التراب الوطني تزايدت المحاولات لتشويهه أو التشويش عليه وحرمان اللبنانيين (ومعهم معظم العرب) أن يعيشوا لحظة فرح نادر، في زمن الإنكسار والخيبات والهزائم.
وضع البعض نفسه في موضع إسرائيل، فرأى نفسه مهزوماً، ولكنه بدل أن يحاول تصحيح وضعه أو الاستدراك بالهرب من هذه التهمة المشينة، أو التحلي بتواضع المخطئ أو بخجل التائب، اندفع إلى تزوير الحقائق، واستل السلاح الطائفي الملوث في هجومه على الوطن نفسه، دولة وشعبا، ليفسد علينا بهجة العيد الذي عشنا على انتظاره منذ آذار 1978، من غير أن ننسى امتدادات الاحتلال الإسرائيلي التي وصلت في مثل هذه الأيام من حزيران 1982 إلى قلب العاصمة الأميرة بيروت.
ومع أن الحوار الوطني مع الطائفيين، لأي طائفة انتموا، مستحيل، إذ غالباً ما ينقلب إلى مساجلات بل إلى مهاترات تؤذي بأكثر مما تفيد، فمن غير الجائز الصمت عن هؤلاء الذين يستغلون الرأفة بهم (بل بالوطن) والإشفاق عليهم ومحاولة التفتيش عن أعذار تُخرجهم من خانة العدو وتعيدهم إلى أهلهم وإلى واقعهم، حتى لا تكون إسرائيل شريكاً لنا في بيوتنا غداً.
لقد كاد يُطمس الإنجاز التاريخي: التحرير بالمقاومة، وإخراج إسرائيل من أرضنا بالقوة التي أعادت الروح و»أقنعت« العدو بتنفيذ القرار 425 المنسي منذ 22 سنة، وطغى عليه حديث »التجاوزات« تمهيداً لأن يفتح ملف المتعاملين بالمقلوب، إذ كاد البعض يُخرجهم من قفص الاتهام لينصِّبهم على منصة القضاة.
فعبر بعض التصريحات والمواقف السياسية، ناهيك بالتصرفات على الأرض، تبدى وكأن ثمة مؤامرة لاغتيال النصر والتحرير والفرح بالإنجاز الوطني العظيم.
ولولا شيء من التورع أو التحفظ أو الخوف لرفع البعض عقيرته مطالباً المقاومة بالاعتذار عن جهدها وجهادها لتحرير التراب الوطني،
… ولتجرأ بعض آخر فطالب بتقديم الشهداء من المجاهدين إلى المحاكمة لأنهم تسبّبوا في »خراب« حياة العملاء والمتعاملين وإفقارهم وتهديد أمنهم وقطع أرزاقهم (الإسرائيلية) وقطع الأرزاق من قطع الأعناق.
ولولا أن أنطوان لحد تبدى ركيكاً وتافهاً، كأي مرتزق، لربما كان هؤلاء قد طالبوا بأن نرسل إليه الوسطاء نطلب إليه معهم وهو ذو القلب الكبير أن يغفر إساءاتنا وأن يعود ليتولى قيادتنا مع »جيشه« الباسل الذي أثبت »لبنانية صافية« في المواجهات المفتوحة على امتداد عقدين من الزمن!!
ما قيمة اللافتات التي رُفعت بالأمر طالما أن المنطق السائد يجافيها إلى حد التناقض معها، ويعتبرها مجرد »كفارة« أو »تقية« أو »شطارة لبنانية« ذائعة الصيت؟!
لنبسط الوقائع:
اجتاحت إسرائيل لبنان، واحتلت أجزاء من أرضه منذ العام 1978، وأقامت فيها »جيشا« من المرتزقة يقاتل لحسابها، علنا، ويفتدي جنودها، و»إدارة مدنية« في خدمة احتلالها، وفرضت أمرا واقعا، كما يحصل مع أي احتلال في أي بقعة من هذا العالم… فباتت هي »السلطة« وهي »مصدر الرزق« وهي »المرجعية«.
هذا مفهوم، ولا أحد يحاسب على ما تم او وقع بالاكراه.
.. وأخضع الناس، في الارض المحتلة لمقتضيات هذا الأمر الواقع: الشيعي كما الماروني، الارثوذكسي كما الدرزي والسني كما الكاثوليكي وصولا الى البروتستانتي،
إذن كانت الطوائف جميعا سواء، وكان »أبناؤها« كأسنان المشط،
فلماذا يراد الآن، تصنيف المتعاملين او المتعاونين أو العملاء بحسب طوائفهم؟!
وهل ثمة تراتبية او طبقية في التعامل؟! هل ثمة خيانة درجة أولى وخيانة »ترسو«، ولماذا يُسقط شعار »المشاركة« هنا؟!
إن للتسامح حدودا، خصوصا إذا كان موضوع الخطأ يتصل بالوطن وأرضه وكرامته وأمنه وحياة مواطنيه، والعمل ضده وضدهم لحساب العدو.
وليس من التسامح في شيء أن نصغي إلى هذا المرتكب وهو يكابر ويصل إلى تحدي أبناء وطنه جميعا، ويتصرف وكأن من حقه أن يحاسب الذين لم يتعاملوا، وكأنه بذاته وبحفنة الدولارات التي كان يتقاضاها من دم ضحاياه أهم من وطنه ودولته.
إن هذا المنطق المتهالك الذي ينطلق من الشفقة لينتهي بإدانة المقاومة والدولة والشعب، والذي يزوّر الحقائق، متلطيا وراء طائفيته، لهو دليل إدانة إضافي: كأنما الطائفة لا تعيش إلا على حساب الوطن، أو بالأحرى: إلا إذا مات الوطن!! أو لكأن حقوق الطائفيين لها الأولوية المطلقة ولا تقبل مراجعة من أي نوع!
من يدري… لعلنا نسمع في الأيام القليلة المقبلة من يطالب بتشكيل محكمة لمحاسبة السيد حسن نصر الله وقيادة »حزب الله«، وكل مناضل عمل في صفوف المقاومة، وكذلك رئيس الجمهورية العماد اميل لحود ورئيس المجلس ورئيس الحكومة وكل من يتحمل شيئا من المسؤولة عن »جريمة« التحرير؟!
ولعلنا نسمع عن تشكيل محكمة ميدانية تطارد المحتفلين بالتحرير باعتبار أنهم يستفزون ويجرحون مشاعر اخوانهم الذين خربت بيوتهم بعد خروج الاحتلال؟!
لقد تجاوز التجني والتباهي بالعمالة والتستر عليها أو محاولة تزيينها وتبريرها كل حد معقول!
مفروض علينا الان مناقشة ما هو بديهي..
ففي القوانين العادية لاي بلد في العالم، متقدماً كان ام متخلفاً، كان يمكن محاكمة امثال هؤلاء الذين ترتفع اصوات معينة بالدفاع عنهم، وتطالب بعدم محاسبتهم الان:
أليس القتل العمد جريمة؟!
أليس التصدي لقوات الشرعية بالسلاح جريمة؟!
أليس التهجير وتهديم البيوت وقصف المدارس وقتل الاطفال واحراق المواسم والاشجار وتشريد الناس.. جرائم؟!
ألا نزال في حمأة النضال من اجل عودة المهجرين (من الجبل وانحاء خرى)، والتعويض عليهم، وقد تكلفنا حتى الان المليارات من الدولارات،
ألا يستق مهجرو الجنوب والبقاع الغربي مثل هذه المعاملة؟!
ثم… أليس التزوير والتهريب والاتجار بالمخدرات والابتزاز بقوة السلاح، ناهيك بالتخابر والتعامل مع »دولة اجنبية« ولننسَ »العدو« مؤقتاً بين الجرائم (والجنح) التي يعاقب عليها القانون العادي؟!
نفهم ان تطرح المسألة الاجتماعية، وهموم الحياة اليومية، والخدمات الضرورية المطلوب توفيرها، وبالسرعة القصوى، لتعويض هذه المنطقة المنكوبة ما لحق بها من اهمال او تقصير قبل الاحتلال الاسرائيلي وخلال دهره الطويل،
نفهم ان ترتفع المطالبة باستعادة التائبين، لا سيما الاسر التي دفعها الخوف او التخويف الى الإلتجاء الى العدو حيث تهان كل ساعة بعدما ألحقت إهانة بالغة بالوطن وبأهلها فيه..
نفهم ان نلتقي على المطالبة بسرعة البت، قضائياً، بأوضاع هؤلاء على قاعدة التمييز بينهم: من تعيَّش من فرصة عمل لم تتوفر له في ارضه، ومن التحق بالميليشيا مرتزقاً، ومن قاتل الشرعية وأهلها فوجه اليها واليهم رصاصه، ومن عذَّب وقتل وهجَّر بعضاً من مواطنيه، ومن احتل بيوتاً وشرد اهلها،
اما تبديل الحديث من العمالة الى »تجاوزات« محدودة وقعت في الايام الاولى للتحرير، ثم التجرؤ على الحق والحقيقة والوطن وشعبه والمقاومة ودماء المجاهدين وطرح مطالب من نوع العفو العام، أو ترويج التبريرات المضحكة، او التذرع بضيق باب الرزق لتوسيع باب »الغفران« امام القتلة والمرتكبين، فلا يمكن ان يكون مقبولا، بل ولا يجوز ان يتورط فيه عاقل.
ان الطائفية عدو الوطن. ان الطائفية حليف موضوعي للعدو.
واذا ما قبلت التبريرات الطائفية للخيانة سقطت المقومات السياسية للوطن.
فليس في الوطن الواحد »وطنيتان متوازيتان«، ما هو صحيح في نظر الاولى شر مطلق في نظر الثانية والعكس صحيح،
والطائفية لاغية للعدالة بقدر ما هي لاغية للوطن.. فحذار!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان