لم يكن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى اختبار الانتخابات الرئاسية لكي يثبت رقيه وإيمانه بالديموقراطية وتعلقه بممارستها. إنه يؤكد هذه الأهلية منذ عقود، وبالدم، عبر نضاله العظيم، الذي كلفه عشرات الألوف من الشهداء ومئات الألوف من الجرحى والأسرى وآلاف المنازل التي هدمها الاحتلال عقاباً للصامدين من أهلها فيها، وتمهيداً للاستيلاء على الأرض لمستعمراته التي يستقدم لها المستوطنين من أربع رياح الأرض ويخلعها عليهم.
لكأنما كان المطلوب عبر التركيز الإعلامي الكثيف على هذه الانتخابات التي لن تفعل غير تكريس واقع قائم، شهادة للاحتلال الإسرائيلي تدلل على إيمانه العميق بالديموقراطية (وحقوق الإنسان!!) تماماً كما يحاول الاحتلال الأميركي للعراق أن يحصل من العراقيين ومن العالم!! على أنه محتل ديموقراطي إنما جاء فاجتاح أرض الرافدين لا لهدف إلا لكي يعيد لإنسانها حقوقه الطبيعية!
ربما لهذا يتبدى مشهد الانتخابات الفلسطينية وكأنه أجمل من أن يكون حقيقياً..
لقد تمّ تغييب الاحتلال، بدباباته هادمة البيوت وجرافاته مقتلعة أشجار الزيتون والبرتقال، وجنود القناصة قتلة الأطفال والفراشات والكتب، بجدار الفصل العنصري الذي يحاصر فيعزل كل فلسطيني عن أهله ومدرسته وجامعته ومصنعه ودكانه، ويسرق منه أرضه التي توارثها أجداده جيلاً بعد جيل، والتي سقاها بعرقه لكي تعطي الخير فيحفظه ويحفظها.
أخليت المدن والقرى للناخبين ومواكب المرشحين والصور واللافتات ومراكز الاقتراع وصناديقها السحرية، وتلطى جنود الاحتلال خلف الجدران، يتابعون ببنادقهم الانضباط الديموقراطي للفلسطينيين في انتخاب الرئيس المعروف سلفاً، والمقبول أصلاً من الاحتلال وشارونه..
تبدى المنظر كأنه، لولا الفوضى العربية، سويدي المنشأ!
ودارت طوابير المراقبين الأجانب على مراكز الاقتراع، ومعها بعض شهود الزور من العرب، ليشهدوا بأن الانتخابات مطهرة من كل عيوب الاستبداد العربي..
سبعة مرشحين ومنافسة نموذجية، بالصوت والصورة والبيان أو البرنامج الرئاسي، لم يكن ينقصها غير أن تنظم بعض شبكات تلفزيون الرأي والرأي الآخر »مواجهات« حول خطط كل منهم للغد الأفضل، تنقل إلى المشاهدين حيّة فتساعدهم على الاختيار بالاقتناع المباشر والحر، تماماً.
بديهي أن النتيجة معروفة سلفاً ومقبولة سلفاً من الإسرائيليين، ومعهم دائماً الأميركيون، وإلا لكانت الديموقراطية خطراً بل وإرهاباً يتهدد الإنسانية بأكثر من »تسونامي«.
فالديموقراطية، هنا، هي بديل من الانتفاضة، والأصوات بديل من السلاح، ومفاوضات »السلطة« المهيضة الجناح والمفلسة مع الاحتلال الإسرائيلي هي الطريق الوحيد إلى تسوية ما، إن لم يكن في هذا العقد من الزمان ففي العقد المقبل، وإن لم يكن على نصف الأرض فعلى ربعها، وإن لم يكن على »دولة« فعلى »سلطة« تسمى دولة لها رئيسها والعلم والنشيد والحرس والشرطة والألقاب المفخمة.
لقد انتهى زمن النضال، وكانت نقطة الختام رحيل ذلك الرجل الذي كان يختزن الالتباس بين الثورة والسلطة… وها قد جاء رئيس جديد لمنظمة التحرير يقبل بأن يرشح نفسه للمنصب الأدنى: رئيس السلطة، مشكلاً بهذا التنازل الرسمي عن الموقع الجامع للأداة السياسية للقضية قبولاً بالأمر الواقع: السلطة أبقى من الرمز الثوري، والتسليم بواقع الحال أجدى من الأحلام التي صارت أقرب إلى الأوهام في عصر إمبراطور الكون الأميركي.
… وبالتالي صار الحديث عن إسرائيل بوصفها »العدو الصهيوني« من زلاّت اللسان التي لا تغتفر لولا الثقة الإسرائيلية بأبي مازن ومعرفتها العميقة بأفكاره وميوله السلمية التي طالما قمعتها الانتفاضة وثوار القرن الماضي.
ثم ما شأن الديموقراطية بالاحتلال؟!
ها هي تجربة فلسطين تثبت أن الاحتلال لا يمنع الديموقراطية بل هو يساعد على نشرها وتعميمها مؤكداً أنها أفيَد للشعوب من الكفاح المسلح والمقاومة التي يسهل دمغها بالإرهاب.
هذه خدمة إسرائيلية للاحتلال الأميركي في العراق سيقبض شارون ثمنها مجزياً ليس فقط في فلسطين بل ربما في سوريا ولبنان أيضاً، فضلاً عن مصر والأردن؟!
* * *
… وماذا لو ضاعت القدس أو ما تبقى منها ومن هويتها الفلسطينية عبر هذه العملية الديموقراطية النموذجية. علينا أن نحدد الخسائر، إذاً فلننقذ السمعة الديموقراطية لشعب فلسطين وبعد ذلك نفكّر بالأرض عموماً وبالقدس خصوصاً.
اليوم سينتهي الالتباس الذي كان يعطل التسوية العتيدة: ستكون السلطة سلطة، وتذهب الثورة إلى المتحف. سيكون الرئيس »أبو مازن« نسخة واحدة وليس مجموعة من النسخ المتداخلة، المتناقضة، المتكاملة التي تزيد من تعقيدات الوضع المعقد أصلاً. لا سلاح ولا انتفاضة، لا كوفية ولا مسدس، لا قائد ثورة ولا زعيم الكفاح المسلح. هذا رئيس ديموقراطي لسلطة مدنية تكره السلاح والمسلحين وترفض الشعارات الثورية، تقول بالتسوية، ولو بشروط الاحتلال الإسرائيلي، وترفع وهم »خريطة الطريق« الأميركية بديلاً من رايات الكفاح المسلح التي »دمرت قدرات الشعب الفلسطيني، وشرّدت جيله الجديد فنشأ في ظلال الجهل والأمية وطلقات الرصاص والمواجهات غير المتكافئة مع واحد من أقوى جيوش العالم«.
والتوقيت في غاية الأهمية: إن الاحتلال الإسرائيلي يقدم النموذج الناجح لديموقراطية من صنعه وفرت لشعب فلسطين أن يقرر في أمره، بكل حرية… وهذا النموذج يمكن بيعه للاحتلال الأميركي في العراق، فهو »أرقى« من النموذج الأفغاني وأكثر صدقية.
ولا يهم كم دفع الشعب الفلسطيني من ثمن للوصول إلى هذا الهدف السامي: الديموقراطية… إنه لن يفرّط بعد اليوم بديموقراطيته لا مقابل الأرض ولا مقابل حق العودة.. بل إن هذا الشعب سيحمي نفسه (وإسرائيل) من الإرهاب بهذه الديموقراطية التي جاءته بإعجاب العالم وتقديره وأعطت الإسرائيلي، ولو محتلاً، شهادة جدارة بأنه استطاع أن يخلق بقوته غير المحدودة ودمويته المشهورة نموذجاً فذاً لديموقراطية صالحة للعالم الثالث وأبنائه المتخلفين.
لقد طُويت صفحة أخرى من كتاب النضال الفلسطيني.
وُلدت، شرعاً، السلطة التابعة للمحتل، ولكن الديموقراطية في استيلادها تحميها من الاتهام في وطنيتها، أما الثورية فمن الماضي الذي لن يعود.
»وداعاً منظمة التحرير«! لقد تحقق الشعار الإسرائيلي!
لكن شعب فلسطين، المحاصر والمعزول، المجوّع والمقتول، المصادرة أرضه وحقوقه في الحياة، لن يحتفل بهذا النصر الديموقراطي الذي تكلف استيلاده ما كان يمكن أن يطعمه شهراً.
إنها محطة إجبارية، ولكنها ليست نقطة النهاية.
وأبو مازن أكثر صراحة من أن يحتاج إلى من يشرح سياسته، وطبيعة نظرته إلى الشريك الإسرائيلي (الأخ الأكبر) الذي لن يخطئ مرة أخرى في توصيفه بالعدو الصهيوني.
والديموقراطية الأجمل من أن تكون حقيقة لا يمكنها أن تحجب فلسطين أو تنهي نضالها الذي كان وما زال وسيبقى حقيقة يجللها الدم فيجعلها لائقة بإنسانها الذي يكون بأرضه أو لا يكون.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان