حقق إسحق رابين لإسرائيل ميتاً أضعاف ما حققه لها حياً، سواء كجندي او كقائد عسكري او كرئيس للوزراء يتصدر مقاعد الزعامة السياسية فيها.
وأعطى بعض الحكام والمسؤولين العرب رابين حياً ثم ميتاً، ولا سيما ميتاً، ومن ثم اسرائيل، وهم بحكم »الاحياء« ما كانت تعجز عن اخذه لو انهم ماتوا قبل هذا اليوم، او ماتوا فيه، ولأي سبب كان!
لقد اطلق ذلك الفتى الاصولي اليهودي، المشبع بالتراث الدموي للحركة الصهيونية التي يمثل الاستيطان ذروة تجلياتها، النار على بطل المشروع الصهيوني في نسخته »الاسرائيلية« الاخيرة، لكن رصاصات ايغال أمير الثلاث اصابت اضافة الى رابين نفسه القدس الشريف وصورة »العربي« في هذه اللحظة السياسية فهشمتها تهشيماً ومعها »قضيته« التي كانت مقدسة وغدت الآن غير مفهومة.
كان في القدس اكثر من موكب تشييع، امس،
اكبر المواكب وأعظمها جلالاً كان موكب تشييع القدس ذاتها، بما هي المدينة العقيدة، المدينة التاريخ، المدينة الكون، والمدينة التي تكاد تختزل معظم التاريخ العربي والاسلامي، والتي ظلت دائماً اكبر من فلسطين العربية وأكبر من اسرائيل اليهودية.
لقد مشى العالم في جنازة القدس القديمة بوصفها بعض الماضي، ثم تجاوزها للاحتفال بعودة »اورشليم« عاصمة موحدة لإسرائيل، والآن بشهادة هذا الرهط من »القادة« العرب والمسلمين، وبعضهم استحضر نسبه الشريف لكي يسقط به الحق التاريخي لشعبه وأمته في المدينة المقدسة.
فالرجل الذي دخل القدس محتلاً في العام 1967، اتى اليها بالعالم كله الآن ليشهد له انه استحقها بدمه بينما ضن عليها بالحماية أهلها وأصحابها، أبناء أحيائها المضمخة بعذابات الرسل والانبياء، وبيوتها العتيقة المحتفظة بأنفاس اولئك المبشرين بالجنة ممن صانوها وحفظوها وأعادوا تطهيرها بدمائهم بعد كل غزو او كل حملة اجنبية اتت لاجتياحها عبر البحر.
لقد اخذ اسحق رابين مفاتيح المدينة المقدسة مرتين: مرة بقوة السلاح، ومرة بغير قتال، ونتيجة لهوان العرب على انفسهم واستسهالهم الخروج من التاريخ بذريعة الانتساب الى طبعته الجديدة!
وحين مشى اولئك الرسميون العرب، حكامù وصبية حكام، وراء نعش اسحق رابين، في بعض شوارع القدس، بغير تحفظ او اعتراض، وبغير الاشارة في خطبهم النائحة الى حقهم فيها، ولو من موقع الشريك المهزوم، كانوا يسلِّمون له ميتù ولإسرائيل من بعده، على مرأى ومسمع من العالم الحاضر كله، مصيرهم ومستقبلهم الآتي وليس بعض ماضيهم فحسب.
لقد كان ميتاً أقوى منهم مجتمعين ومحتسبين في عداد الأحياء!
***
من قرار الكونغرس الاميركي الذي مر على هؤلاء »العرب« بغير اعتراض جدي،
الى اغتيال الدكتور فتحي الشقاقي الذي غطت دماؤه منصة الرئاسة في مؤتمر عمان »الاقتصادي«، واقتحمت على المشاركين غرف نومهم مع بطاقة من اسحق رابين يطمئنهم فيها الى انه قد خلصهم من هذا الخطر الداهم،
وقبل ذلك من أوسلو 1 الى أوسلو 2 مرورù بوادي عربة،
ومن مذبحة الحرم الابراهيمي الى تنصل رئيس لجنة القدس و»الممثل الشرعي والوحيد« وذلك الهاشمي الذي لا يتوقف لحظة عن الانتقام من أمته لدم جده الذي كان له شرف السبق الى التفريط،
في كل تلك المحطات، رجوعù الى »الزيارة« وبعدها كامب ديفيد، كان النظام العربي يسقط شرعيته في ادعاء الحق بفلسطين والقدس بالذات، وينسحب من الصراع العربي الإسرائيلي، بينما تواصله إسرائيل لتسقط الهوية العربية عن المنطقة بكاملها، ولتمهد لاجتياحها كاملة تحت شعارات »عملية السلام« هذه المرة، لكي تقيم على أنقاض »الماضي البليد« شرقها الأوسط الجديد.
* * *
جارحù في إيلامه، كان المشهد في القدس، بل مشهد القدس ذاتها أمس.
لكأنها كانت جنازة الحاضر العربي، بادعاءاته التحريرية، أكثر منها جنازة لأحد صنّاع المستقبل الإسرائيلي.
كانت القدس »الإسرائيلية«، أمس، وكأنها عاصمة الكون بالتناوب مع المركز الآخر في واشنطن،
وصحيح أن الضغط الأميركي قد أتى بمعظم الحشد، الى هذه المدينة التي لم يعترف العالم بعد بهويتها الإسرائيلية المفروضة، إلا أن الحضور العربي، على ركاكته، وعلى كونه مطعونù بمشروعيته وشرعيته، قد غطى على الزور والتزوير والفرض والإكراه، وأسبغ على المشهد شبهة »الإجماع«… وقلة من يدققون في شروط التسليم!
إسحق رابين الميت كان أمس أكثر فاعلية وأعظم حضورù من أولئك الحكّام العرب الذين لا يجدون مَن يتذكر أنهم أحياء إلا حين تستلزم الصورة ضرورة إبراز الكوفية والعقال، ولو من دون رأس!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان