حملتني صور وأخبار الحرب الكلامية المتبادلة بين مسئولين أتراك وأوروبيين والحشود التركية في بعض المدن الأوروبية والتركية، حملتني إلى أجواء ألف ليلة وليلة والعهد القديم وأفلام الكونت دي مونت كريستو وليلى مراد. شاهدنا ونشاهد حلقة في حكاية غرام عنيف ينتهي بانتقام، حكاية مرارة واضحة وخيبة أمل شديدة وخديعة مؤلمة وعشق جديد ممكن بعد عشق قديم مستحيل وأحلام جريئة محل احلام انكسرت ومخاطرة بعقيدة سماوية من أجل مكاسب دنيوية، هذه وغيرها سبق أن رأيناها في مراحل عديدة مرت بها العلاقات بين إمبراطوريات الشرق ومجتمعاته وإمبراطوريات الغرب ومجتمعاته في عهود ظلامه ونهضته وتوسعه ثم الآن في عهد انكماشه وانقسامه وتردده.
******
هي أيضا حكاية حب مستحيل. الأوروبيون لم ينسوا ولن ينسوا الزحف العثماني يوم وصل المسلمون إلى ضواحي مدينة فيينا. يدرسونه في مدارسه وجامعاتهم ويقرأون عنه في الروايات والقصص. أما الأتراك فلم ينسوا، ولن ينسوا، ما فعله الغرب بإمبراطوريتهم حتى استحقت بجدارة عنوان “رجل أوروبا المريض”. لا أحد في الشرق أو في الغرب ينسى، ونحن العرب بالذات لن ننسى، أن جزءا أو جزأين من الغرب المنتصر في الحرب العالمية الأولى قاما بتقطيع الجسد العثماني إلى مستعمرات غربية واصطنع لكل منها اسما وحالة انتداب، ثم رحل مخلفا دولا استقلت وأغلبها لم يتعاف حتى يومنا هذا ليستحق صفة وحقوق الدولة الحديثة وواجباتها. استند في حكمي هذا إلى حال العالم العربي كما يراه الغرب وإلى صورته الراهنة كما أراها أنا وأقراني في كل بلاد العرب. لا الحب كان، أو يظل، ممكنا بين الأتراك والغرب ولا كان، أو، يظل ممكنا بين الأتراك والعرب، ولا كان، أو يظل ممكنا، بين الغرب والعرب.
******
ما يحدث الآن بين تركيا وبلاد أوروبا الغربية لا يخرج عن كونه حلقة من حلقات مسلسل الحب المستحيل، ولكنه أيضا التعبير العصري المناسب لحالة التنافر المستحيل. يكاد ينطبق على ما يحدث المثل الشهير “أحبك وأكرهك وأوفي بوعدك ولا أقدر على بعدك.”، أو المثل الآخر “القط يحب خناقه”. كلاهما أي تركيا وأوروبا لا يستغنى الواحد منهما عن الثاني، فالمهاجرون الأتراك في الغرب مشروع اقتصادي تركي مزدهر، والمهاجرون من العالم العربي والإسلامي عبر تركيا مشروع غزو إسلامي جديد للقارة الأوروبية وفي الوقت نفسه مشروع تخريب مبتكر للحضارة الغربية. المشروع الأول يظل رهن إرادة الغرب، والمشروع الثاني كان في نظر الأوروبيين وما يزال، رهن إرادة أنقرة.
******
اجتهادات عديدة حاولت وتحاول تفسير تصرفات السيد إردوجان الأخيرة، وبالتحديد خلال الأسبوع الراهن، تجاه دول أوروبا، وبخاصة ألمانيا وهولندا وكذلك الاتحاد الأوروبي. اخترت من هذه الاجتهادات أقربها، من وجهة نظري، إلى واقع الحال في العالم والإقليمين والأطراف ذات الاختصاص، أعرض بعضا منها وبإيجاز ضروري فيما يلي:
أولا: صعب جدا فصل هذه التصرفات من جانب إردوجان وردود الفعل الأوروبي لها عن مسيرة التيار”الشعبوي” الصاعد في عدد من الدول مثل الولايات المتحدة وروسيا، والمخترق بجسارة متناهية أنظمة حكم في ألمانيا وهولندا وفرنسا وعدد من دول جنوب وشرق أوروبا. في كل هذه الدول اختلطت المشاعر القومية بالعداء التقليدي المكبوت حينا والفائر حينا آخر. وقعت هذه التصرفات الإردوجانية والألمانية والهولندية في ظروف داخلية أوروبية بالغة الأهمية. ففي تركيا تجري استعدادات شعبوية هائلة تحضيرا لاستفتاء على صلاحيات ديكتاتورية لرئيس الدولة في ظل اعتقاد راسخ من جانب إردوجان بأحقية الحصول على أصوات الأتراك المغتربين والمواطنين الأوروبيين من أصول تركية المقيمين في أوروبا. من ناحية أخرى، تجرى استعدادات لحملات انتخابية في كل من هولندا وفرنسا وألمانيا وأمل كبير لدى اليمين المتطرف فيها في اللحاق بانتصار دونالد ترامب في أمريكا.
******
ثانيا: تتقدم بسرعة مذهلة العلاقات بين روسيا وتركيا. يخصنا في هذا المضمار حقيقة أن أحد أهم أهداف الرئيس فلاديمير بوتين قهر الاتحاد الأوروبي من جهة وحلف الأطلسي من جهة أخري. المهم في هذه المرحلة الاستثنائية في تاريخ العالم، من وجهة نظر روسية، أن يحدث في الجبهة الغربية فتور يمهد لانقسام يقع بين الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، وخلافات بين الدول الأوروبية السبع وعشرين تمهد لانفراط الاتحاد الأوروبي، وكلاهما حادث بالفعل وإن بدرجات متفاوتة. في هذه الحالة يترتب لتركيا دور هام. يترتب لها وعليها أن تؤكد ولاءها للصديق الروسي الجديد مع احتمال رفع درجة الولاء اللفظي وربما الولاء الوظيفي الراهن إلى مرتبة التحالف. (وهو ما يذكرني بتطور أو انحسار العلاقة بين النظامين الحاكمين في روسيا ومصر). المطلوب من تركيا أن تساهم من جهتها في تعميق الخلافات والتوترات داخل القارة الأوروبية. تستطيع مثلا أن تساعد الحركات القومية المتشددة المستندة إلى دعم بوتيني لا بأس به، بأن تتمادى القيادة التركية في تصرفاتها المستفزة. مطلوب منها أيضا أن تتسبب بتصرفات أخرى في وقيعة داخل صفوف قيادات حلف الأطلسي العدو اللدود لروسيا.
******
ثالثا: يبدو لي، وهو اجتهاد شخصي، أن الطيب إردوجان قرأ جيدا واستخلص دروسا نتيجة هذه القراءة لحال تراجع قوة الغرب ونفوذه في العالم الخارجي. بمعنى آخر يصبح استمرار الرهان التركي على الغرب مضيعة للوقت وتبديدا لأرصدة وطموحات تركيا وحكومتها الإسلامية. المقارنة المفيدة في هذا الشأن تكون مع تجربة المكسيك الراهنة في التعامل مع التراجع النسبي ولكن الواضح في قوة أمريكا ونفوذها الدولي. تتضح أهمية هذه المقارنة من أن المكسيك بدأت فعلا هذا الأسبوع في الارتباط بالصين في مشاريع صناعية بالغة الضخامة. سمعت من يبالغ في القول بأن دولا عربية تسعى الآن لفك ارتباط او آخر بأمريكا، اقتناعا بفرضية تراجع القوة والنفوذ الأمريكي أو تيمنا وتقليدا لسياسة تركية جديدة مع الغرب أو وهو الأقل وضوحا، كسب رضاء روسيا ولا أقول إظهار الولاء لها كما يظن بتركيا.
******
رابعا: لا أقلل كثيرا من شأن الاجتهاد القائل بأن الرئيس التركي لا شك يشعر بخيبة الأمل، ولا أقول خيانة العهد، من جانب الدول الأهم في الاتحاد الأوروبي التي وعدت أسلافه ووعدته هو شخصيا بتسريع إجراءات انضمام تركيا إلى الاتحاد، أي الإقرار بأن تركيا دولة أوروبية. من ناحية ثانية، قيل بأن أوروبا لم تف بالتزامها تنصيب تركيا ممثلا وقائدا لنظام شرق أوسطي، رغم ما تتمتع به، حسب القائل بهذا الاجتهاد، من توفر كافة مسوغات القيادة، دينيا وسياسيا وادعاء بانتماء للديمقراطية والاقتصاد الحر. وقيل، من ناحية ثالثة، إن فلاديمير بوتين ربما وعد الطيب إردوجان بالتزام روسيا تحقيق هذا الحلم الإردوجاني فور التوصل إلى تسوية في سوريا تساهم فيها تركيا. من ناحية رابعة، يتردد أن ألمانيا والاتحاد الأوروبي لم يسددا كامل مبلغ الست مليارات دولار المتفق عليها مقابل وقف الهجرة عبر حدود تركيا. يقول الأتراك إنهم أوفوا بالعهد وإن داوموا استخدامه لابتزاز تنازلات أوروبية في مجالات أخرى.
******
الموضوع لم يصل بعد إلى نهايته وأظن أنه لن يصل إلى نهاية حاسمة قبل مرور وقت غير قصير. بالأمس أذاعت محطة سي إن إن الأمريكية أن فلاديمير بوتين أهم رجل في عالم اليوم وأنا شخصيا لا أرى في هذا التقييم تجاوزا كبيرا. لا أستبعد، والأمور في عالمنا العربي على بؤسها وأمور روسيا في صعود وأمور الغرب في انتكاس، أن تخرج المحطة نفسها أوغيرها بتقييم للطيب إردوجان ينصبه في مكان ومكانة الرجل الأهم في الشرق الأوسط.
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق