نشر هذا المقال في “السفير” بتاريخ 12 تموز 2010
إنه يوم الثاني عشر من تموز، مرة أخرى..
وها نحن في السنة الخامسة من الحرب الإسرائيلية المفتوحة على لبنان، بل على الأمة العربية جميعاً، والآن على المسلمين أيضاً عبر تركيا، بعنوان فلسطين… وإسرائيل تحاول ـ مرة أخرى ـ إظهار نفسها بصورة الضحية المستضعفة والمهددة بهجمات نووية صاعقة تشنها عليها سفن قافلة الحرية لنجدة غزة المحاصرة، ورشقات صاروخية مدمرة تخترق القبة الفولاذية الأميركية وتعجز عن صدها صواريخ باتريوت أو عن تدمير منصاتها السرية تنطلق من قرى تولين وقبريخا وخربة سلم في جنوب لبنان.
ولكي تستكمل حكومة نتنياهو إجهازها على فلسطين، القضية والأرض وحلم دولة لمن تبقى من شعبها فيها، ها هي تستعدي على لبنان وأهله ومجاهدي المقاومة فيه دول العالم أجمع، وضمنها معظم أهل النظام العربي وبعض القيادات السياسية اللبنانية التي تستمد حياتها ومبررات وجودها من دوام الفتنة، فإن هي انطفأت نيرانها اندثرت، مخلية المساحة لانتصار لبنان ومقاومته وصمود شعبه، وقبلها وبعدها القضية وأهلها في فلسطين.
إنه موسم تجدد العنصرية والكراهية لكل من وما هو خارج على النظام العالمي الجديد، بعنوانه الإسرائيلي الفج، فلتشمل الحرب الجديدة، إذن، سوريا وإيران وحتى تركيا، إضافة إلى المقاومة في لبنان… ولا بأس من استثمار الفتنة في العراق تحت الاحتلال الأميركي، لتمويه طبيعة الصراع وحرف العداء عن إسرائيل والهيمنة الأميركية إلى موقع يتلاقى فيه أعداء التحرير بالتغيير تحت راية… حوار الأديان: سبب جديد لإعادة الاعتبار إلى إسرائيل، دولة يهود العالم، تحت عنوان الدين اليهودي!
[ [ [
هي فرصة قد لا تتكرر لمحاصرة المقاومة، حيثما وجدت، وبالذات في لبنان، بوصفها تهديداً للاستقرار الكوني ومصدراً للفتنة ـ عربياً وإسلامياً ـ وعامل تهديد لأنظمة الاعتدال في العالمين العربي والإسلامي جميعاً!
لا بد من محو ذكريات الفشل في حرب تموز الأميركية بالقيادة الإسرائيلية. لا بد من طمس النصر الذي حققته المقاومة بالتفاف الأكثرية الساحقة من اللبنانيين والشعوب العربية (والإسلامية) من حولهم.
لا بد من التشهير بالمقاومة، فكراً وجهاداً وصموداً وتضامناً بين المقهورين بالاحتلال أو بالعجز أو بالتخلف، أو بهذه الآفات جميعاً.
لذا فلا بد من كسر هالة النور والرقي الفكري والمفاهيم الإنسانية التقدمية التي كان يمثلها المجتهد ـ المرجع السيد محمد حسين فضل الله، وذلك بتظهير هذا الدور وكأنه رعاية للإرهاب ونفخ في نار الفتنة… ولا بأس من محاسبة سفيرة بريطانية ناجحة على رأيها البديهي في مكانة هذا المرجع المحترم، ولا بأس من طرد معلقة تلفزيونية ناجحة (من أصل لبناني) من شبكة «سي ان ان» لأنها ذكرته بالحد الأدنى من الحيادية، أي بلا تهجم أو افتراء!
[ [ [
إنه الثاني عشر من تموز، مرة أخرى..
لقد اتسع ميدان الحرب الإسرائيلية ليشمل تركيا… لذا فلا بد من نجدة أميركية سريعة، ولا بد من مشاركة مؤثرة لأهل النظام العربي فيها. وهكذا تنفتح أبواب البيت الأبيض وقصور الحكم في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من دول أوروبا لحماية إسرائيل من «تهوّرها» الذي بات يستعدي عليها العالم!
تستدعى «السلطة» التي لا سلطة لها في فلسطين ليطلب إليها العودة إلى المفاوضات المباشرة، كرة أخرى، بعد افتضاح الخواء القاتل في المفاوضات غير المباشرة على مباشرة المفاوضات..
يستدعى مجلس الأمن بقضه وقضيضه لتأديب تولين وقبريخا وخربة سلم، وإسباغ القداسة على عسكر «اليونيفيل» الذي تعميه الطائرات الحربية الإسرائيلية بطيارين أو من دون طيارين والزوارق
البحرية الإسرائيلية عن رؤية كل ما عدا تلك البيوت النووية في تولين وقبريخا وخربة سلم..
بالمقابل، يتم تأديب الحكومة الإسلامية في تركيا، التي أرادت تأكيد حقها بدور طبيعي كدولة كبرى في الإقليم، وذلك بلجم اندفاعتها في محاولة فك الحصار عن غزة، وتعزيز العلاقة مع سوريا، ثم «التورط» في وساطة مشتركة مع البرازيل (وبطلب أميركي مباشر) لتسوية مقبولة في الملف النووي الإيراني..
فجأة، وبغير مقدمات، تحاصر الوساطة بضغوط وإغراءات جاذبة لروسيا والصين، و«نصائح» للأصدقاء العرب، تمهيداً لقرار جديد من مجلس الأمن بفرض عقوبات جديدة (!!) على إيران… ولا يهم أن تفسر وكأنها عقوبات على تركيا ذاتها، (ومعها البرازيل)، خصوصاً وقد ترافقت مع تشجيع مباشر للمتمردين الأكراد، ولجيوب معارضة أخرى داخل تركيا (الجيش، المحكمة الدستورية وأحزاب المعارضة) لإشغال هذه الحكومة الإسلامية المتمردة بذاتها عبر إشكالات الداخل.
وتحت عنوان الخطر الإيراني الداهم يطلب من أهل النظام العربي التقدم خطوة إضافية على طريق محاصرة إيران، فتدفع «الإمارات» إلى الواجهة تحت حماية سعودية تبدت واضحة في لقاءات البيت الأبيض، حيث قدمت التصريحات السامية إيران على الخطر الإسرائيلي، مما أسقط المبادرة الملكية التي صيّرت عربية من أجل «تسوية» توفر الضمانات جميعاً لإسرائيل بغير أن تضمن لشعب فلسطين شبراً واحداً من أرضه الطبيعية، فلسطين.
[ [ [
وبالعودة إلى لبنان الذي يجلله ـ مع مقاومته ـ الحزن على فقيده المجتهد والمرجع السيد محمد حسين فضل الله، نتبيّن بوضوح المحاولات الإسرائيلية الدؤوبة للإفادة من أجواء الانشقاق السياسي في الداخل، حيث تقرأ قوى الموالاة في انتصار المقاومة هزيمة لها. ولأنها أعجز من أن تواجه الأكثرية الشعبية ـ حاضنة المقاومة، فهي تحاول استثمار «عواطف» أهل النظام العربي بتقديم نفسها «خط الدفاع» اللبناني عنهم!!
بعض تلك البروباغندا تتم، أيضاً، تحت شعار حماية العراق من الخطر الإيراني، كأنما استسلام النظام العربي أمام الاحتلال الأميركي للعراق (ومعه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين) يعزز عروبة العراق ويحمي كيانه… وكل ذلك مهدد الآن، لا سيما أن الانسحاب الأميركي الموعود يقدم وكأنه بمثابة تفجير الصاعق للحرب الأهلية الجديدة في أرض الرافدين، ودائماً تحت شعار مذهبي يوفر للأكراد فرصة الاستقلال بإقليمهم بعيداً عن «الجار» الذي كان شقيقاً وشريكاً أكبر في الوطن الواحد: العرب!
[ [ [
إنه الثاني عشر من تموز، مرة أخرى..
وتجيء الذكرى هذه السنة منقوصة الفرح: لقد غاب أحد كبار المبشّرين في النصر على الحرب الإسرائيلية، بوصفه واحداً من آباء المقاومة، وأحد أبرز المجاهدين من أجل العدل والخير وروح التقدم الإنساني، وواحداً من رواد الاجتهاد، ممّن فتحوا أبواب الفكر ـ مع الإيمان ـ أمام المجاهدين. وبين أسباب التقدم المعرفة بالعدو ومواجهته بالعلم إضافة إلى الإيمان بالأرض وروح الجهاد.
والمعركة مفتوحة بعد، في الداخل وعلى المستوى العربي عموماً، مع ميادين إضافية على مستوى الإقليم.
العدو هو هو، وإن تعددت أسماؤه ووجوهه لتشمل الانحياز الأميركي والتعالي الأوروبي والتهالك العربي، والانكشاف الداخلي بالتمزقات العديدة، المصنوع حديثاً منها أو المتحدر من عصور سالفة.
ودروس حرب تموز ناطقة، وأعظم الواعين لمنطقها ودلالاتها هو قائد المجاهدين وصانع النصر في حرب تموز، السيد حسن نصر الله، الذي يعيش في حزن الفقد على مَن أخذ عنه بعض العلم وبعض الإيمان وبعض سمات القائد.
وأول الدروس كآخرها: الصمود هو أقصر طريق إلى النصر، ومعه التماسك الاجتماعي، والابتعاد عن كل ما قد يتسبّب في الشقاق أو الفتنة، والوعي بطبيعة العدو.
والثقة بعدُ عظيمة في القدرة على إحراز انتصارات جديدة.