كان الشهر رمضان، واليوم السبت، والوقت الساعة الثانية بعد الظهر،
شمس تشرين الأول تخترق بألسنتها الحادة الأزمنة والأمكنة والناس، فتفرض سكونù متلبدù وثقيلاً، والأشجار تتعرّى بصمت من أوراقها والألوان، وأرتال الموظفين وتلامذة المدارس يتخذون طريق العودة إلى بيوتهم متعجلين، بينما الأمهات والزوجات منهمكات في تحضير مائدة »الإفطار« بدءù بال»قمر الدين« و»الكلاج« والتمر واللبن وانتهاءً بأصناف الحلويات الشهية التزامù بافتراض أن »المؤمنين حلويون«،
المذيعون يقرأون بتثاقل نشرات الأخبار التي لا تقول شيئù، وتقفز عيونهم فوق السطور المفرغة من المعنى بينما عقولهم منصرفة إلى التفكير بما هو أكثر جدية وفائدة.
بصوت هادئ جدù، ومن دون مقدمات موسيقية صاخبة، يقرأ المذيع في إذاعة دمشق خبرù رصينù يفيد أن القوات العربية السورية المسلحة ترد اعتداءً إسرائيليù واسعù وتتعامل مع المعتدين بالأسلحة المناسبة.
في اللحظة ذاتها، وبالصوت الهادئ نفسه، كان المذيع في إذاعة القاهرة يقرأ خبرù رصينù بالمضمون نفسه مع اختلاف بسيط في التفاصيل.
أما إذاعة إسرائيل التي طالما نعت إلينا أحلامنا، عبر الحروب التي كان جيشها يذهب إليها وكأنها نزهة ممتعة، قصيرة جدù ومجزية جدù، فقد كانت تعيش حالة ارتباك واضطراب ظاهرين، وسبحان مبدّل الأحوال!
من البعيد كان الصدى المهيب للهدير المقدّس للطيران الحربي، العربي هذه المرة، يتمدّد في صفاء السماء العربية كوقع أجراس الميلاد، كاشحù من المدى الظل الأسود للعدو، بينما كان دوي المدافع المتفجرة بقهر الهزيمة يملأ الفضاء بزغرودة فرح عريضة: ها هي إرادة الرجال تخترق الصعب لتسقط ما كان العجز قد جعله يصنّف في خانة المستحيل.
* * *
بعد إثنين وعشرين عامù على السادس من تشرين الأول 1973، الذي ستتعدّد ألقابه بعد ذلك، فتكون له تسمية »العبور المجيد« و»حرب تشرين التحريرية« ومن الجهة المعادية المقابلة »حرب يوم الغفران«، تبدو ذكرى الحرب بعيدة ولكن السلام ليس قريبù، وليس مؤكدù، برغم كل التواقيع التي تحملها صكوك اتفاقات الاذعان.
ذلك أن »القضية« التي أخذت الناس مرارù إلى الحرب، ما زالت تستعصي على الموت، ولا يبدو عليها أنها ستشيخ، في المدى المنظور، حتى لو تهاوى الكثير من »أصحابها« أو »أبطالها« أو حملة راياتها في الماضي. وستظل نبوءة بن غوريون معلقة في انتظار الزمن الآخر، الآتي.
لم تصبح الحرب صفحة من الماضي، بل إن الحاضر كله قد ولد وهو يتنفس وينمو في رحم الحرب. فالقضية أعظم من الحروب وأكبر من »أبطالها«. أكبر من »الإسرائيلي« وأكبر من »الفلسطيني«، ولعلها أكبر من مجموع العرب واليهود، برغم أن الطابع الأصلي للصراع عربي إسرائيلي. وها هي الاحتفالات الكرنفالية في واشنطن تؤكد تجاوز هذا الصراع لأطرافه المباشرين، لا سيما أولئك الذين هدّهم التعب أو أغرتهم السلطة فوقعوا ووقّعوا.
حروب القضايا العادلة يصعب دفنها في الماضي. إنها تسري كالنسغ في التاريخ وتنتقل به من الحاضر إلى الحاضر. قد يهدأ أوارها وقد تغطيها تواقيع المصالحين، لكنها تكمن في رحم اتفاق الاضطرار، سنوات وربما أجيالاً، في انتظار انفجار الخطأ وسقوط الاضطرار.
* * *
كيف يكون سلامù ذلك الذي يغيب عنه ويرفضه بطل قرار الحرب في مثل هذا اليوم قبل إثنين وعشرين عامù، 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973؟!
لا مجال للحرب اليوم؟!
ربما، ولكن ماذا عن الغد وبعد الغد؟
وهل السلام هو حصيلة آلية للعجز الراهن عن الحرب من أجل الحق في الحياة؟
وكيف تنتهي حرب هذا الزمان، وإسرائيل تحيي ذكرى »حروب« قبائلها والأفخاذ والتي فخّمتها وضخّمتها وعظّمتها حتى غدت تاريخù مزوَّرù للمنطقة بكاملها، وهي هي تفرض على العالم كله احتفالاً بمرور ثلاثة آلاف سنة على »انتصاراتها« تلك التي تعتبرها أساس وجودها وتستند إلى أساطيرها لتبرير »حقها« في أراضي الآخرين؟!
* * *
بعد إثنين وعشرين عامù على »حرب تشرين العبور الغفران« ما تزال المفاوضات على »السلام« مفتوحة على الخطر والدم.
لقد تبدّلت صيغة الحرب وأسلحتها، لكنها ما تزال متصلة.
والذين هرعوا إلى التوقيع هم الذين لم يحاربوا، أبدù، أو الذين حاربوا قليلاً ليبرِّروا من بعد قبولهم بسلام يزيد على الحاجة،
فالمفاوضات ساحة إضافية للحرب، والمقاتل الرديء فيها هو المقاتل الرديء بالرصاص،
وإذا كان المشهد العربي الراهن يظهر أن قلة قليلة من العرب ما تزال في الميدان، مفاوضات وحربù بالسلاح، فإن هؤلاء المقاتلين، بقيادة سوريا، أقوى سياسيù بما لا يقاس من أولئك الذين غادروا الميدان قبل الأوان، وارتضوا باتفاقات لا تفعل إلا التمهيد لحروب أخرى ولو بعد حين وربما بعد سلسلة من الحروب الأهلية العربية.
* * *
في الذكرى الثانية والعشرين لحرب تشرين تحية لمن اتخذ قرار القتال، للشهداء الذين سقطوا وهم يقاتلون، وللذين ما زالوا يحملون دماءهم على أكفهم ويقاتلون في فلسطين وفي لبنان من أجل سلام يستحق كل تلك الدماء التي أريقت لحفظ الأرض والحق التاريخي فيها حاضرù ومستقبلاً.
تحية لحافظ الأسد، الذي لن يكون أبدù المقاتل الأخير.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان