لم ترتق اي دولة الى مستوى الحلم،
ولم يمكن، عبر التاريخ، اسر الحلم في دولة،
فالدولة، عموما، اضيق من ان تتسع للحلم، ولذلك يبدأ النضال ضدها في العادة منذ لحظة قيامها، بأمل الارتقاء بها في اتجاه ما يوفر المزيد من الضمانات للمساواة والعدل والحريات وسائر الحقوق الطبيعية للانسان.
دولة الوحدة ولدت قبل اوانها بزمن طويل: لم تكن الامة بقدراتها المادية جاهزة لمثل هذا التوغل داخل الحلم ومواجهة التحديات الهائلة.
لنعترف انها كانت مغامرة، فيها من ملامح الريادة اكثر مما فيها من مقومات الحياة.
كنا قد ارتحنا الى اننا قد استولدنا، اخيرù، بطلنا المرتجى،
ورحنا نسقط عليه كل المختزن من امنياتنا وآمالنا وشهواتنا ورغباتنا،
اضفينا عليه ملامح اسطورية تتلاقى فيها وتتقاطع ملامح ابطال تاريخنا الغابر جميعا الجاهلي والاسلامي: من سيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد العبسي والزير ابي ليلى المهلهل الى صحابة النبي وخلفائه: ومن كل افضل ما عنده… الصمود في وجه الردة، كما عند ابي بكر الصديق، حس العدل كما عند عمر بن الخطاب، الايمان الثابت والاستعداد للشهادة في سبيله كما عند الامام علي بن ابي طالب، عدم التنازل عن الموقف المؤمن بصحته وتنزيه الحق عن ان يكون صفقة بيع وشراء كما عند الحسين بن علي، التطهر من موبقات السلطة ومن عصبية الاسرة المالكة كما عند عمر بن عبد العزيز الخ،
ولم نجد اية غضاضة في ان نثقله ايضا بملامح من ابطال الشعوب الاخرى، فكان لا بد من ان نحمله بعض ملامح جورج واشنطن الاميركي وبيسمارك الالماني وغاريبالدي الايطالي، ثم استدركنا فادركناه ببعض ملامح لينين وستالين السوفياتيين وماوتسي تونغ اضافة الى صن يات صن الصينيين مع شيء من غاندي ونهرو الهنديين وتيتو اليوغسلافي.
لم يكن ذلك حلما فقط، كان فيه ايضا شيئا من العبث.
لقد اصطنعنا بطلا خرافيا بقدرات خارقة وشاملة لكل مناحي الحياة واعباء التطور، وكلفناه بأن يواجه حتى الموت رواسب دهور التخلف ويلبي في الوقت ذاته كل الاحتياجات اللازمة لاقتحام الغد.
وكنا نتصاغر وننسحب نحو الراحة واطمئنان البال كلما تورمت صورة البطل وتزايدت اعباؤه.
هو في الميدان فلماذا حضورنا نحن؟!
انه مدجج بالانبياء والرسل والابطال، بالتنهدات والدعاء، بالقادة الكبار وتجاربهم العظيمة.
ثم انه قوي بنا، نحن الجماهير الذين حملنا سيارته حبا، والذين هتفنا باسمه في اقصى المغرب كما من فوق قمم الجبال في اليمن، واشعلنا الربع الخالي بالنداء المقدس واسمه المغزول باحلام اطفالنا.
لكن الدول على ضعفها، تحتاج الى اكثر من العاطفة والحماسة والهتاف والحب. انها تحتاج الى العقول والادارة والمال والسلاح. تحتاج الى التنظيم والعلم والكفاءة. تحتاج الى المنهج والبرنامج العملي والاداة التنفيذية.
ومع لحظة اعلان قيام دولة الوحدة ابتدأ الصراع فيها وعليها ومعها.
كان الاخطر الصراع بين »بناتها« على نظامها، وهم قد شغلوا فيه وبه عن استكمال مقومات بنائها وتحصينها.
ثم كان الصراع مع خصومها الذين لم يتورعوا (وذلك منطقي) عن التحالف مع الاعداء، ففي السياسة لا وجود للحلال والحرام. المصالح هي التي تحكم.
وبطبيعة الحال فقد امتد الصراع على مساحة المصالح الدولية جميعا، في ضوء احتمالات الخطر التي تشكلها الدولة الوليدة، التي انبتها الحلم متجاوزا بها حقائق الحياة وقواعد بناء المجتمعات وتحقيق الخرق الاستثنائي لجدار التوازنات القائمة على مستوى الكون.
ما ابعد المسافة بيننا اليوم وبين الحلم.
ولعل فشل التجربة قد زاد من اتساع تلك المسافة وحول الحلم الى مجرد ذكرى باهتة في الزمن الجميل الذي انقضى ولن يعود.
لكننا اليوم نعرف باليقين، ولا نندفع بالعاطفة، ان اماننا في الوحدة، وان مستقبلنا خارج الوحدة سيظل رهنا بالقرار الاسرائيلي.
فمع شحوب حلم الوحدة وتلاشي فكرة الثورة واندحار العقائد وتجارب الاحزاب التي تدرعت بمقولاتها وشعاراتها ثم لم تنجح في تحقيق استهدافاتها الجليلة، برزت نظرية »الشرق الاوسط الجديد« الاسرائيلية وافردت جناحيها فوق منطقتنا برمتها مستقطبة الى فيئها الكثير من الهاربين من ميدان النضال والمرتدين عن الثورة والمتنكرين لمنابتهم القومية والمتوهمين انهم يستطيعون شراء المستقبل جاهزا من »سوبرماركت« النظام العالمي الجديد وفوقه دمغة »صنع في اميركا«.
ومع تهاوى الحركة القومية، كان لا بد من ان تملأ الفراغ دعوة ما، راية ما، قد تكون من طبيعة مضادة، او تكون من تراث الموروث السابق على تنامي الفكر القومي.
وهكذا عادت الى الساحة الكيانيات التي وصلت مع بقايا الثورة الفلسطينية التي شوه الاستعجال بداياتها ثم قضى عليها من بعده، الى العنصرية، كما وصلت في انحاء اخرى كلبنان الى الطائفية او المذهبية، في حين انتعشت الاتجاهات الى استعادة الاسلام، بوصفه الحل، مجددا او بصيغته الاصلية ولو اتسمت بالسلفية.
وفي ذلك كله تزكية لفكرة الوحدة لو كان لها الآن فرسانها والقادرون على مهماتها الخطيرة الى حد انها نزوع الى تغيير الكون.
ليس الخطأ في فكرة الوحدة ولا في دولتها.
الحقيقة اننا كنا ادنى قدرة من تحقيقها.
ولسنا الآن بالضرورة ابعد عنها، الا بقدر ما نتوغل في طريق الخطأ: طريق الاغتراب عن ذاتنا، والخروج من تاريخنا الى عراء الهجانة والتبعية والالتحاق بالمشروع الاسرائيلي.
في ذكرى الوحدة: تحية للبطل المغزول من احلامنا، جمال عبد الناصر.
تحية لكل من اجتهد فعمل من اجلها، بقدر ما يعرف.
وتحية للابطال الآتين اليها على طريق الغد.
* تحية لذكرى دولة الوحدة
الجمهورية العربية المتحدة
تنشر اليوم في الزميلة »المجد« الاردنية.