تحية للمقاومة في لبنان. فعلت ما لم يستطيع فعله نظام عربي. لقد أثبتت الجيوش العربية فيما بعد أنها تجيد محاربة شعوبها وقمعها. لكنها لا تجيد قتال العدو الاسرائيلي. حتى في عام 1973، كاد النصر يتحوّل الى هزيمة.
الهزيمة تعشعش في حنايا نفوسنا. تدير عقولنا. كأننا نتقصّد أن ننهزم. كأننا نعشق الهزيمة. تعودنا على الذل والمهانة. واحد فقط من حكام 1967 حاول التنحي ومنعه شعبه، رغم الهزيمة. ما زلنا نتهرّب من مناقشة موضوعها. إذا كان هناك “شخصية عربية”، وقد صدرت عدة كتب بهذا العنوان أو ما يقاربه، فهل يمكن البحث في هذه الشخصية دون الهزيمة التي تشكّل جزءاً أساسيا منها. أصبحت الهزيمة هي الضمير المستتر؛ أشبه بالغريزة. صار طبيعيا اعتبار أن اسرائيل تنتصر وأن العرب ينهزمون. صارت الهزيمة قدرنا، غير المحبب بالطبع.
مسار الهزيمة بدأ في عام 1967، ثم موت عبد الناصر، ثم نصف انتصار أو هزيمة في عام 1973، ثم اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل في أواخر الثمانينات، بعد 10 سنوات من توقيع اتفاقات كامب دايفيد. قتل السادات في عام 1982 لم يكن من أجل فلسطين. قضية فلسطين لم تكن ببال الذين قتلوه. لكن مسار الهزيمة توسّع وهناك بلدان عربية كثيرة لا تخفي علاقاتها مع اسرائيل. يبدو أنه بقي لديهم بعض الخجل مع أن الذين “استحوا ماتوا”. إذا أراد المرء أن يؤرخ للعرب في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، فبإمكانه أن يجعل عنوان الكتاب “تاريخ الهزيمة”. كان تحرير الجنوب اللبناني نصراً عظيماً، لكنه كان خارج السياق.
لماذا الهزيمة؟ حدثت الثورة العربية في عام 2011 وكان شعارها عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة، الخ… لم تظهر فلسطين بين شعارات الثائرين. ليس معنى ذلك أن فلسطين ما عادت في الوعي العربي، بل تبقى في أساسا هذا الوعي، في عمقه، في عمق الضمير العربي. بالثورة صار العربي مواطناً. زعزع أسس المنظومة العربية. سارع بعض الحكام من أصحاب أموال النفط الى رشوة شعوبهم بتوزيع المال والمنافع. البعض الآخر سارع الى الثورة المضادة والحرب الأهلية. فليقاتل الشعب العربي، كل شعب عربي، نفسه بنفسه، وليس أمر حكامه. فالنتيجة شارك جميع الحكام العرب في الحرب الأهلية التي تدور رحالها منذ عام 2011، وما تزال مستعرة. عرف الحكام العرب ما أدركته الشعوب العربية. عرفوا أن الشعوب العربية تريد تغيير ما بالنفس وبناء دول جديدة وجيوش جديدة ومجتمعات جديدة لمواجهة العدو على أساسها واسترداد الأرض المغتصبة. أدركت الشعوب العربية أن تجربة التحرير في لبنان عام 2000 لن تتكرر، وأن حرب تموز في لبنان لن تتكرر، وأن صنع أمر مشابه لن يكون إلا على المستوى العربي. خطاب أحمد الشقيري الذي ما زال يتكرر يجب أن ينتهي. المطلوب وعي جديد وأساليب جديدة. المطلوب تغييرات في المجتمع العربي وفي النفس العربية للخروج من الهاوية التي نحن في قعرها. مطلوب مقاومة أعم وأشمل مما رفع لواءها الشقيري ومنظمة التحرير الفلسطينية (فتح وأخواتها) والمقاومة في لبنان.
الطريق طويل. لا صبر عند البعض. يحرر فلسطين العربي الذي يحرر نفسه. التحرير من الاستعمار جاء بالاستبداد ومهانة العرب من جديد. تتحرر فلسطين عندما يتحرر العرب من أنفسهم، ويبنون نفساً جديدة، روحاً جديدة تكون الحرب آخر وسائلها. وتقود الحرب بعدها، إذا حصلت، الطريق الى نصر مؤكد. يجب أن ينتصر العربي على ذاته، على نفسه، قبل أن ينتصر على غيره.
أسأنا فهم التحرير. هو تحرير للجماعة من سيطرة جماعة أخرى. ما أعطينا الاهتمام الكافي لتحرر الفرد من الجماعة. تحرير الجماعة قاد الى سيطرة القابضين على الجماعة على الأفراد. التحرير، تحرر الجماعة، خطوة على الطريق الطويل نحو الحرية. الحرية ليست أكثر أو أقل من تحرر الفرد من الجماعة. مسارا الحرية والتحرير يفترقان. يصير التحرير قاعدة لقمع الناس وإخضاعهم لمن قام بالتحرير، أو إدعى التحرير؛ وتصير الحرية ثورة الناس، الأفراد، ضد من قام بالتحرير واختصر الجماعة في شخصه أو حزبه. على هذا الأساس يصير التحرير (تحرير الجماعة) قاعدة للقمع. قمع الجماعة لأفرادها، وإجبارهم وإخضاعهم وجعلهم يطأطأون الرأس لمن لديه منة التحرير. استرجاع فلسطين يحدث بالحرية لا بالتحرير. عندما يزعم كل فرد عربي أنه حر، وعندما يمارس حريته دون قمع أو سجن أو نفي، وعندما يتحقق ذلك في الواقع لا في التمنيات، تصير قضية فلسطين ذات حل تلقائي. يحرر فلسطين الأحرار، لا يحررها عبيد نظام التحرير؛ عبيد أنظمة تدعي الحرية للجماعة وتمنع الحرية عن الأفراد. كيف تكون الجماعة حرة دون أن يكون أفرادها أحراراً. عليك أن تكون حراً في مواجهة العدو (الاستعمار أو اسرائيل) وأن تكون حراً في مواجهة مجتمعك ونظامك ومن يحكمك. عبد النظام لا يمكن أن يكون حراً في مواجهة العدو التاريخي والوجودي. علينا أن نحقق وجودنا قبل أن نتصدى لوجود العدو. الأرض لنا كعرب، ولا وجود فيها للعرب أو غير العرب إن لم يكونوا أحراراً. الحرية هنا بالمعنى الفردي: أن يوجد الفرد في مجتمع مفتوح، فسيح الأرجاء، ليتسع للرأي والرأي المضاد. ينفتح أمام النقاش. يصمد أمام الشك. يؤكّد بالشك نفسه.
المقاومة بالسلاح واحدة من المقاومات. لطالما كان وجود المرتزقة ثم العبيد غالبا في الجيوش العربية ثم السلجوقية والأيوبية والصفوية والعثمانية. لطالما كان العبيد أفضل المقاتلين في هذه الجيوش. لم يعد الأمر يصلح للقرن العشرين أو الواحد والعشرين. لا يصلح هذا الأمر إلا لجيش من المواطنين. شرط المواطنة هو الحرية لا التحرير. هو الفرد الذي تماهى شخصه مع القضية. هو من اعتبر، ويعتبر، أن القضية لا قيمة لها إلا وهي في خدمته، وأنه هو لا يخدم القضية، وأنه هو والقضية واحد بوجهين.
لا لزوم لأن نقاتل. لكننا نقاتل من أجل أنفسنا. دفاعاً عن أنفسنا. نقاتل عندما تتماهى القضية مع وجودنا. وعندما نعتقد أن هزيمة القضية هي هزيمة فردية لكل واحد منا. نحن لا نعيش في سبيل القضية. القضية قضيتنا. وهي موجودة من أجلنا. الدفاع عن القضية هو دفاع عن كل بيت وعن كل فرد منا. بئس من جعل القضية متسامية علينا. يقبض عليها من يدعي التسامي علينا. بئس من جعل القضية تهمنا لكنها بيدهم، بيد طبقة فوق المجتمع أو على أطرافه. بئس من جعل الرفض فصيلاً من فصائل المقاومة، وبئس من جعل المقاومة فريقا يجب الدفاع عنه. الوفاء هو لأنفسنا فقط، لأننا نحن القضية؛ لأن القضية تتماهى مع وجودنا، مع تاريخنا، ماضياً وحاضرا ومستقبلاً. الذين جعلوا الدولة “هم” وصرنا نتكلّم عنها وكأنها كيان غريب، ورثهم الذين جعلوا المقاومة كياناً نتحدث إليه وكأنه هم. كانت المقاومة “نحن” جميعاً وصارت “هم”. المطلوب لا إلغاء المقاومة بل توسيعها. المطلوب إعادة تحويلها من “هم” الى “نحن”.
كي تتحوّل المقاومة من “هم” الى “نحن” عليها أن تصير مقاومة المجتمع باقتصاده وثقافته ومقومات الحياة فيه. لا على سبيل التعبئة بل على سبيل المجتمع المفتوح الذي يعمل وينتج ويصير متماسكاً بالإنتاج والعمل والسعي. نصير مواطنين بالعمل والسعي. نرفع رأسنا بالإنتاج والبحث والعلم والإنجاز. نرفع رأسنا بأن نصير جميعنا كردوساً واحداً. جيشاً من المشاة الذي يتفرّع منه طيران نحن نصنعه، وبحرية نحن نصنعها، وبحوث علمية تجري في مختبراتنا. نرفع رأسنا عندما نصنع الأشياء فنصوغ المستقبل. نعيد صياغة المستقبل كما يتناسب مع رغباتنا لا مع المخططات الجيوستراتيجية. عندما نتحرر من تارخنا، نصنع ما يتيح لنا التحرر من جغرافية أرضنا. بالعلم، العلم الحديث، نتحرر من أنفسنا، ونحرر العالم. اليوتوبيا لا واقعية الجيو-استراتيجيا. اليوتوبيا هي نحن وأحلامنا وسعينا وعملنا وبناء مجتمعنا. الجيو-استراتيجيا هي تواطؤات الدول الكبرى والإقليمية. هي الواقعية بكل مآسيها. مهمتنا تجاوز الواقع والواقعية. مهمتنا صنع يوتوبيا مخالفة لواقعنا ولتاريخنا ولتراثنا. هل نملك الجرأة على ذلك؟ الجواب نعم يمكن.
قال بعضنا انتهت العروبة. جرى انتقال للإسلام. فشل الإسلام السياسي. يقول البعض فلنعد الى القومية العربية. لا هذا ولا ذاك. في الإسلام السياسي وفي القومية العربية رجوع الى ماض لن يعود. إفلاسنا، بالأحرى الهزيمة، أدت الى العودة لماض مجيد. نعود الى الماضي المستحيل لأننا أضعنا فرصنا مع الحاضر. قدمنا استقالتنا من الحاضر وعزفنا عن صنع المستقبل. هي منطقة تشمل المتوسط وصولاً الى المحيط الهندي. يتكلمون لغة واحدة. أو فلنقل لغة فصحى مشتركة، وإذا أرادوا التفاهم بالعامية (عامية كل بلد أو قطر) فالأمر لن يكون مستحيلاً، على ما فيه من صعوبة. وحدة اللغة التي يرفض الجميع (جميع أهل المنطقة) التخلي عنها، يمكن أن تكون قاعدة للتوحد. لا ضرورة لوحدة البلدان. وحدة اللغة شرط ضروري، لكنه غير كافٍ. ما يصل بنا الى الكفاية هو الشغل والعمل والإنتاج وتجاوز الخلافات التاريخية والتمتّع بعقل سياسي. يضع المصلحة الفردية فوق مصلحة القطر، ومصلحة القطر فوق مصلحة “الأمة”، لكنه عقل سياسي يغلّب المشتركات على التناقضات (ميكيافيللية بكل ما في الكلمة من معنى).
ليست المسألة في تبني أفكاراً أو برنامج عمل يمت الى القومية العربية أو الى الإسلام السياسي، بل في تبني برنامج يصدر عن العقل لحل المشاكل التي تواجهنا وهي كثيرة. كل برنامج يصدر عن القومية العربية أو الإسلام يعني اننا نريد العودة الى فترة الأمجاد أو السلف الصالح. لا اختلاف في البنية الفكرية للقومية العربية والإسلام السياسي. كل منهما يهدف الى العيش في الماضي، ويشيحان النظر عن الحاضر. يخجلان من حاضرهما فيزداد تمسكهما بماض بعيد سحيق مستحيل العودة إليه. عقلنا السائد ما زال ينكر الراهن. كلاهما عقل سلفي بتلاوين مختلفة، وإن تبنى أحدهما العلمانية. كلاهما يجعلنا في مواجهة العالم، بدل من الخروج للعالم والانخراط فيه. نعتقد أن العالم يواجهنا؛ نواجهه ونكون دائما بجانب الهزيمة. المطلوب أن نخرج الى العالم، أن ننخرط في العالم، وأن نتبنى ثقافة العالم، ولا خوف على ثقافتنا، هذا إذا كان لدينا اعتداد بأنفسنا. ليس العالم هو الذي ضدنا، نحن ضد العالم؛ نحن الذين ضربنا الطوق على أنفسنا؛ نحن الذين أغلقنا العقل العربي. كل ذلك دون أن نكتشف أنه كلما اكتشف العالم ضعفنا الداخلي، وهن أنفسنا، أمعن في إذلالنا ودعم العدو. بالهزيمة لا نفعل شيئاً لاكتساب احترام العالم لنا. أصبحنا كالثور الذي لا يرى إلا لوناً واحداً. لا نرى إلا فلسطين. أهملنا حقيقة أن فلسطين ليست قضية فلسطينية وليست قضية إسلامية وليست قضية القومية العربية. هي قضية العرب. يجب أن يتطوّر المجتمع العربي ويتماسك. لن تنسى شعوبنا فلسطين. لكنها تنسى نفسها، ومن ينسى نفسه يهمل قضية فلسطين. فلسطين هي قضية تحررنا من أنفسنا. وتجعلنا نتجاوز أنفسنا، ونتجاوز ماضينا، ونقلع عن الالتفات الى الوراء، ونعيش في المستقبل لا الماضي. نصنع المستقبل ولا ندع الماضي يصنعنا. ما يزيد الهزيمة تأصلاً فينا هو اعتبار القضية فلسطينية وليس اعتبارها قضية عربية، قضية العرب لا كما هم بل كما سيصيرون. لن نصير أمة دون الخروج الى العالم، والانخراط في العالم، وتبني ثقافة العالم. أُدرك أنه جرى تحديثنا. دخلنا الحداثة بالمقلوب. الحداثة بالمقلوب تعني أننا صرنا خدماً عند الغير. نخدم أهداف الغير. نعيش حياة لا نصنع نحن أهدافها. مشلولو الإرادة، فاقدو الثقة بالنفس؛ أقطارنا فاقدة السيادة. حكامنا فاقدو الشرعية (وما هي إلا رضى الناس). مثقفون متسكعون على أبواب السلاطين (وعاظ السلاطين كما قال علي الوردي). تاريخنا يُكتب لنا من أجل أن يصنع الغير مستقبلنا. مجتمعاتنا منقسمة على بعضها. ما زالت خلافات مضى عليها أكثر من 15 قرنا هي التي تقرر الحدود بين الأحزاب، وتقرر المخيلة السياسية أيضاً. لدينا الكثير من المقدسات والكثير من الطقوس والقليل من الإيمان.
التغيير يبدأ بتغيير ما بأنفسنا، والانطلاق بالعمل والسعي والإنتاج والأخذ بالثقافة العالمية، وهي ثقافة غربية، والأخذ بالعلوم الغربية لا بالتكنولوجيا الغربية وحدها. على كل حال نحن أشد الشعوب استهلاكا للتكنولوجيا الغربية دون أن نفهم العلم الذي وراءها.
المقاومة تعني أن نقاوم أنفسنا قبل مقاومة الغير وأن نعتبر الأولى شرطاً للثانية. وفي ذلك يمكن أن يلعب المثقفون دوراً كبيراً. الاستعمار موجود. نراه أمامنا. الحرية وهي لا تكون إلا فردية، لا التحرر وهو مسألة جماعية. التحوّل من التحرر الى الحرية، الى مجتمع مفتوح يتسع لكل أنواع النقاشات والحوارات والشكوك والآراء المتناقضة. المجتمع المغلق يدور حول نفسه. لا ينتج شيئاً جديداً. يفسد ويهترئ ويقود الى مزيد من الهزائم والى تكرار الشعارات والبرامج نفسها منذ أحمد الشقيري الى الحاضر. جربنا هذه الطريق فلماذا لا نجرّب غيرها؟ أو أننا لا نجرؤ على الخروج من هذه الطريق.
بالوعي السائد يمكن تحقيق انتصارات جزئية. لكنها شواذات تثبت القاعدة. الهزيمة هي العنوان الكبير لحاضرنا. الخروج من الهزيمة الى النصر يتطلّب الخروج من أنفسنا وعلى أنفسنا ثانياً، وثالثاً، الخ… العراق وسوريا ومصر بلدان تستورد القمح وبقية أنواع الغذاء. لبنان يستورد التفاح وكل شيء تقريباً، وقس على ذلك. الصحراء تزحف الى الساحل. الأرض الزراعية تضمر وتتلاشى. أنهارنا الكبرى تنبع من عند غيرنا وهؤلاء لا يبنون عليها سدودا. وكل ذلك جزء من الهزيمة. لا نصنع شيئاً. نستهلك ما لا نصنع. ولا نفهم كيف نصنع. لا ننتج إلا اليسير. مجتمعات استهلاكية تزداد فقراً. يزداد عدد السكان ويزداد الفقر والإدقاع والإحباط. نحن أمة محبطة. لا نخرج من ذلك إلا بالشغل والعمل والإنتاج للخروج من الإحباط والانتقال الى الإنتاج والاعتداد بالنفس. لا يعتد بنفسه من لا ينتج.
نخرج من واقعنا الى تحقيق أحلامنا باستمرار أو تكرار ثورة 2011.