“السفير” لم تكن صحيفة عادية. كانت في قلب لبنان وفي قلب بيروت وفي قلب العرب. عندما أوقف طلال سلمان دقات قلبها في نهاية ٢٠١٦، “لكي تموت كالشجرة وهي واقفة”، مثلما قال عندما أبلغ أسرة الصحيفة قراره الصعب، إرتضى لنفسه هجرة أكبر، هجرة الروح والعقل عن عالمه الصغير والواسع، وترك الجسد لهجرة أخيرة إلى العالم الآخر بعد سبع سنوات.
القول بأن “السفير” كانت القلب في بيروت ليس مبالغة. من عاش حصار بيروت عام ١٩٨٢ وخبر الرابع من آب/أغسطس من ذلك العام (وآب/أغسطس هو شهر رحيل طلال سلمان) يعرف سكنى القلب. يوم محموم من القصف البحري والجوي والبري العشوائي على كل شيء في بيروت، قبل أن تُلملم العاصمة ما بقي منها وتكاد أعينها التي لم تغلق لا تصدق مشهد موزعي الصحف يطوفون أحياء بيروت فجراً وهم يرمون أعداد “السفير” عند أبواب المنازل، ومانشيتها مُزين بعبارة: “بيروت تحترق… ولا ترفع الأعلام البيضاء” وكاريكاتير ناجي العلي (صباح الخير يا بيروت). هذا العدد، أربع صفحات فقط، كان انتصار ذلك الصباح، كان نشوة حياة.
طلال سلمان كان شجرة “السفير”. الأرض يبست من حوله، عندما جفّت السياسة في البلد وفي الوطن الأكبر. كان يُردّد أن “السياسة ماتت في لبنان والعالم العربي”. لم يعد هناك إلا التفاهات والصفقات، ولا صحافة من دون حياة سياسية سوية في لبنان أو من حوله. هنا استعجل الرحيل، وقرّر أن يهجر مهنة الصحافة واقفاً. إفلاس السياسة غير مقدور عليه، بخلاف إفلاس المال.
لليوم، أنا وغيري سمعنا مباشرة ومواربة مبررات إغلاق “السفير”، وكثر عايشوا المرحلة بأدق تفاصيلها، ومع ذلك نبقى غير مصدقين! كيف استطعت يا طلال سلمان أن تتخذ مثل هذا القرار؟ شجاعة ما بعدها شجاعة، وكأنه يقول هذا البؤس المتعمد والممنهج الذي إسمه لبنان، لا يستحق “صوت الذين لا صوت لهم”، ولو كانت نهايتها نهايتي.
اليوم؛ نُدرك أكثر وأكثر أن هذا البؤس لا قعر له. وأن سفير طلال سلمان لو بقيت لما بقي من حالها المشاكسة الثائرة الولّادة للابداعات. ومع ذلك يبقى قرار إغلاق “السفير” لُغزاً عصياً، خصوصاً أن مقومات استمرارها كانت متوافرة أو كان من السهل توافرها، من وجهة نظري المتواضعة.
لا حياة من دون سياسة حقيقية بالنسبة للصحافي والكاتب. طلال سلمان ظلّ يناور السياسيين ويحاورهم في مواجهات يومية حتى صار الأمر مُلتبساً. هل طلال سلمان صحافي مشروع زعيم سياسي أم سياسي يمارس السياسة بالصحافة على طريقته؟
ليس خافياً أن “السفير” ساهمت في تشكيل وعي وطني وقومي عام عابر للمناطق والطوائف والحدود وكانت إلى حدٍ ما حزب الذين لا حزب لهم أو حزب الباحثين عن حزب من نوع جديد.
ولطالما كان البعض يتعمد تمرير اسم طلال سلمان في مواسم تشكيل الحكومات أو اللوائح النيابية في لبنان، وكنت أستعرض أمام الراحل منح بك الصلح أسماء الذين عبروا من مكاتب “السفير” الى الوزارة والنيابة والسفارات وعمادات الجامعات.. وأقول له إن دور الأستاذ طلال آتٍ لا محالة.
كان منح بك يردُ ساخراً من قلة خبرتي بمعادن الرجال: “كل الذي ذكرتهم ينامون ويستيقظون على قلق من أو على أمل بأن يكون طلال سلمان قد ذكرهم في مقالاته، أو ترك لمحرري “السفير” أن يكتبوا عنهم، وكل الذين تذكرهم، عندما يُعدّدون انجازاتهم، يكون من بينها أنهم كتبوا في “السفير” أو تردّدوا على مجلس طلال في الطابق السادس من مبنى الجريدة”.. وهذا ما أدركه اليوم تمام الإدراك، فالشجرة التي رحلت واقفة، ممتدة الشرايين، وباقية تُذكرنا بأن لأمل القيامة فيء يُظلّله.
لقد اختصر طلال سلمان وكثّف كل حياواته، بجريدة لبنان في الوطن العربي.. وجريدة الوطن العربي في لبنان.
نشرت في موقع 180 بوست