في مطار روما الدولي، كانت الحركة ذلك الأحد خفيفة وبليدة الإيقاع، وقلة من الركاب يتوجهون الى صالات المغادرة وبواباتها، في حين كان شيء من النعاس يغلف نظرات رجال الأمن العام وهم يتناولون جوازات السفر، يقلبون صفحاتها بغير حماسة، ثم يقلبون نظرهم في وجوه اصحابها بقليل من العدائية قبل ان يضعوا عليها أختام السماح بالخروج من الجنة.
سألت زميلنا طلال خريس، الذي أصر على ان يودعني على الطريقة العربية: ماذا، هل هناك إضراب مباغت كالذي اشتهر به الطليان؟! أم لأنه يوم أحد والركاب يتشاءمون من المغادرة او ربما من الحركة فيه…
قال طلال: صار المطار الدولي للغرباء، مثلنا، فقط… اما الأوروبيون جميعا فلا يحتاجونه. ان رحلاتهم »داخلية« وشأنهم شأن الطليان، يدخلون ويخرجون كما يشاؤون، لا تأشيرة، ولا جواز سفر، ولا ختم دخول. لكأنهم ركاب اوتوبيس يتابع حركته العادية بين خطين في مدينة واحدة!
التفت ناحية الجدار، إلى يميني، فأُخذت بما رأيت
كان الملصق الجميل مثيراً، ومستفزاً بالنسبة إلي شخصياً.
كان كأنه يشهّر بي، كعربي (والى حد كلبناني)، ويسخر مني، ويُشعرني بالضآلة والغربة عن عالم اليوم وضروراته، بل وبديهياته.
صار الاوروبي يتحرك في قارته الواسعة وكأنه ينتقل بين غرفتين في بيته، تماما كالأميركي الذي تمتد بلاده الفتية باتساع قارة.
اعترفت الانظمة جميعا بمواطنها الذي وحد أوروبا في الاساسيات، مستبقيا العروش للملكيات التاريخية، والجمهورية لأنظمة ما بعد الثورة الفرنسية، والمستشاريات لأنظمة ما بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية.
أي ان الاعتراف كان متبادلا، فالأوروبي مشى الى وحدته في المصالح، فارضا على أنظمته هذا الامتحان، فمن وافق بقي واستمر، ومن اعترض أسقطته الاستفتاءات والانتخابات والضغوط التي لا تقاوَم لإصراره على الامساك بناصية غده: اي تحسين مستوى معيشته، والحفاظ على وتيرة تقدمه، والثبات في المنافسة من أجل مكانة ودور، وأيضا من اجل ثقافة متميزة.
الملصق يُخرج لي لسانه: كلماته بسيطة، تقول انه يمكن للأوروبي (وابتداء من 26 تشرين الاول) ان يتجول في كل »اوروباه« وكأنه في بلده. كل أوروبا بلد واحد! او ان المواطن في خمس عشرة دولة اوروبية (في انتظار اوروبا الشرقية وروسيا)، له الحقوق نفسها في الحركة والإقامة والعمل والاستثمار ونقل أمواله وكأنه في مدينته ذاتها!
يا للجهد الخارق: تجاوزوا عِداء الدهور، والخنادق التي طالما امتلأت بجثث المتحاربين من على جوانبها، والمدن المحروقة، والخلافات الدينية التي تفجرت في حالات كثيرة حروبا اهلية او حروبا دولية، والتصادم العقائدي، والتعارضات المصلحية.
يا للجهد المبارك: تجاوزوا الشوفينية والأنانيات الفردية والأحقاد وروح العِداء المتأصلة، عدا عن اختلاف الانظمة، وكلها ذات صلة بالمكونات الاصلية لتلك البلاد.
لا اختلاف اللغات، ولا تباين العادات والتقاليد، ولا تضاد الأمزجة، ولا تناقض الاحزاب وصراعاتها، ولا التباين المؤكد في المصالح اليومية التي تحميها مؤسسات عاتية، تبدأ بأرباب العمل وتنتهي بالعمال.
هل هي الطبقة الوسطى صانعة هذا الانجاز التاريخي؟!
… وأنت! تتأمل الملصق وتتجرع حسراتك وخيبات أمانيك المتوالية،
تتردد قبل ان تقرر »فتقطع« بين »الغربية« و»الشرقية«، وقد يخاف أبناء صديقك الحميم من قبول دعوتك لزيارتك في بلدتك التي لها في أذهانهم صورة الخصم المخيف، إن لم تكن صورة العدو.
أما ان خطر ببالك ان تسافر الى بلد عربي آخر، فدون ذلك الأهوال؟
ها هي السياسة، هنا في اوروبا، في خدمة الانسان، اما في بلادك فالانسان مجرد أداة او مطية او وقود لأغراض السياسيين الذين يفعلون تماما عكس ما يريده، ويدمرون اي احتمال لتجاوز الواقع الذي يصطنعون من بؤسه مجد زعاماتهم.
أنك في وطنك لست بإنسان، او ان انسانيتك غير معترف بها.
انت لا تعيش حالة طبيعية، لا في الاقتصاد ولا في السياسة، لا في الثقافة ولا في الفن، ولا تستطيع التقدم نحو ما هو طبيعي.
ها هم الاوروبيون يتقدمون نحو إنجاز ما يجب ان يكون، اي ما هو طبيعي، فمصالح الناس هي التي تحكم علاقات الدول، وليست أمزجة الحاكمين ومخاوفهم على كراسيهم.
… أما أنت أيها العربي الذي لم يستحق بعدُ رتبة »مواطن«، فلست في حساب أحد. أنت مجرد أرقام، تتزايد كميتها بقدر ما تتناقص قيمتها!
أنت مضطهَد حيثما كان.
في الخارج يتم اضطهادك لسمرة بشرتك مرة، لاسمك مرة، لدينك مرة، وبسبب حماقة حاكمك مراراً.
أما في الداخل فتُضطهد بسبب من اسمك وطائفتك ومنطقتك قبل ان نصل الى أفكارك.
كأنما لا مكان لك، لا في وطنك ولا في الخارج.
كأنما مفروض عليك ان تعيش أسير الخوف حيثما كنت، ولو داخل غرفتك او داخل أفكارك!
لا تستطيع ان تكون طبيعيا، وان تمارس حياتك بهدوء، لا في بيتك ولا خارج بيتك، لا في دولتك ولا في ما تربيت على الاعتقاد بانه وطنك الكبير.
أنت مشبوه حتى يثبت العكس، ومهمش وملغى تماما. والأمان في ان تكون بلا رأي. فإن كان لك رأي ألغاك.
تكبر البلاد بناسها، وتصغر البلاد بتصغير إنسانها وتقزيمه ومَسخه.
في هذه المساحة الاوروبية الهائلة مكان لكل مواطن، بمن في ذلك »الوافد« و»اللاجئ« والهارب من اضطهاده في موطنه (وأكثرية اللاجئين والمضطهَدين من عربنا المستعربة).
بأوراق صغيرة وضعها أصحابها من الرجال والنساء في صناديق صغيرة، في كل مرة طُرح فيها تفصيل من تفصيلات الوحدة الاوروبية، صُنعت هذه الدنيا الجديدة التي لا حدود فيها ولا قيود على حركة أهلها في سعيهم الى غد أفضل.
الاستفتاء وبعده الانتخاب. الانتخاب وبعده الاستفتاء.
لم يُقَر أمر من فوق رؤوس الناس او في غيابهم.
بقيت الأعلام والأناشيد الوطنية، بقي الملوك بتيجانهم، وبقي الرؤساء المنتخبون، وبقيت المجالس النيابية المنتخبة، والحكومات الآتية باسم الاكثرية وبنتيجة التصويت.
يا للمعجزات القادرة على اصطناعها تلك الاوراق الصغيرة الموضوعة في صناديق صغيرة بها ثقب صغير في أعلاها!
إنه إنجاز شارك في بنائه كل أوروبي من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب، ومن الوسط الى الغرب.
لا يستطيع حاكم ان يقدم نفسه على انه البطل الخارق القدرات الذي ناب عن الناس فأنجز باسمهم ونيابة عنهم وفي غيابهم هذه المعجزة، مؤكدا قدرته وعجزهم، حضوره وغيابهم.
لذا لا يستطيع اي حاكم ان يمنن المواطن الاوروبي الذي دفع من رغيفه ثمن وحدته، لأنه يعرف انها ستوفر له غداً الرفاهية والتقدم والدور الكبير.
كيف ومتى سنلحق بهم؟!
…. وأين في هذه العوالم الكبرى يكون مكان الممزقين المهمشين، والممنوعين من ممارسة وجودهم؟.
هو ملصق فحسب،
ما أكثر الملصقات التي تعدنا لتنفي احتمالات وحدتنا!
علي حليحل: مهما قالوا
مقدر على الأصيل ان يكون سلّما لأهل الهجانة، لا يكتفون بأن يتوسلوه للصعود، بل يعملون على تحطيمه ومحو آثاره والتخلص من »شبحه« الذي يفضحهم حيثما ظهر؟!
وأهل الهجانة شطار، ماكرون، يغرقون من حياة النبع ثم يرمون فيه الحجارة ويشيعون انه قد جف وأنهم هم آخر قطراته وما يذكّر به. وما دام ان لا وصول اليه ولا نفع منه فلا مفر من ان يعتمدوا كبدلاء… وهكذا يحل »البديل« محل »الاصيل« حتى لا يضيع كل شيء.
عشية الحرب، ومن قلب الجزع، ترقرق الشجن صوتا عفياً.
اقتحمت بعلبك الأذن والقلب والوجدان، حاملة معها مداها المفتوح سهلا ولا أرحب تحف به سلسلتا الجبال وكأنهما حرس شرف.
جاءت مع بعلبك البادية بأهازيج الفرحة ودبكة الرجال المرتفعي الهامات، المعقودة خناصرهم لمواجهة الخطر والتحدي بإرادة الحياة، المشعة وجوههم السمراء المثقلة بهمّ الفقر وعرق التعب بالتماعات النشوة، بينما عيونهم تدور تقرأ في عيون النساء الإعجاب الأخرس الذي لا ينطق إلا في مثل هذه اللحظات، وعبر غنة الرباب وبحة الناي، متلفعاً بدوي الطبل الذي يوفر ستار الأمان لعتابا الغزل المندى بالبهجة.
غنّى الشباب والكهول، غنت الصبايا والنساء المتشوقات الى الفرح، وغنت الغرف الفقيرة في الضواحي، والصالونات الأنيقة في البنايات العالية في الأحياء الفخمة. وكان للغناء اسم: علي حليحل.
خرج الناس من تنكرهم مستعيدين ريفيتهم الكامنة وبداوتهم التي لم تدمرها المساحيق والجمل المسروقة والمتقاطعة من اللغات الاجنبية.
لكن علي حليحل المتغلغل في شرايين بعلبك، والمسافر الى الألحان الجميلة يقتبسها من شفاه البدويات والعجائز، لم يتوقف لحصين اعماله، وليفيد من تحولها الى تجارة ويمنع تزويرها او سرقتها.
مضى بعيدا وراء المحاولة الشجاعة ان يجدد وان يضيف. وحين كان يسمع من خلفه صدى اغنياته بأصوات الهواة، فإنه كان يكتفي بالقول: ليوسع الله امامهم مجال الرزق..
عشرات صعدوا على كتفي علي حليحل.
سرقوا منه البادية، سرقوا الموكب المهيب للذين »طلوا من الجردين سمر اللحى«، اقتبسوا »هاي قالوا« و»يا يمه قولي لبويا« و»طولوا« وسائر الألحان التي هزجت بها الشوارع والطرقات المتربة وسيارات »السرفيس« والحفلات ذات الرعاية لحماية الفولكلور والتراث.
لكن علي حليحل لا يُظهر أسفا او حسرة.
صاروا أغنياء، وبقي بفنه أغنى.
صاروا »مشاهير« لهم مواكبهم المخيفة، لكنهم ما أن يبدأوا الغناء حتى يحضر علي حليحل وتتوارى ملامحهم المزورة.
من يحمي شمس بعلبك و»هوا الشمالي« وشميم العرار في البادية؟ من يحمي الصهيل؟!
تلك هي المسألة، ولعل شمولها يخفف من عذاب علي حليحل.
تهويمات
قال لها: أنتِ جميلة كالخريف، حيثما التفتُّ وجدتُ بعض ملامحك. لكأنك تنثرين ألوانك على السهول والأودية، على الاشجار التي تتعرى لكي تستحم قبل الولادة الجديدة.
قال لها: أنتِ أليفة كالمطر، دافئة كالحزن، مشعة كاخضرار الأرض بوعد الموسم المقبل.
قال لها: أنت مثل الأرض، لا تنتهي دورة إلا لتبدأ الثانية؛ تتجددين وتجددين.
قال لها: سأُلبسك عمرك الجديد ورقة ورقة، قطرة قطرة، سنبلة سنبلة، وسأسكب في أرضك خوابي خمرتي المعتقة، فيكون خريفنا فاصلا مزركشا بالبهجة بين ربيعين.
} قالت الشجرة: نزفت عمري وحفظت اسمك. تجرحني لتستودع جرحي حبك فأعلن الحب وأحمي الحبيب. إئتِ بها إليّ وامنح ظلي المعنى.
} رأيتك؛ كنت تتمددين في السحاب كالأمنية، وتطلين من قلب البرق كضحكة طفل انتبه الى حزن أمه فأراد إخراجها منه فانتبهت الى أن الأجمل والأبهى بين يديها، وليس في البعيد.
} حين قامت لترقص، مرة اخرى، أحست ان المدى قد انفتح امام جسدها المتلوي بالرغبة… وكانت تغنج وهي تؤكد قدرتها على ملء المسافة بين عينيه.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يجعلك تزهر في عيون الآخرين. كلما التقوك أحاطوك بأهدابهم حرصاً، وقبسوا من وهجك ما يتدفأون به. حبك يزرعك في صدور الآخرين؛ يتخذون منك القدوة. يتغاضون عن أغلاطك، وحبك هو العذر الجميل. يتقدمون لنجدتك اذا ما دهمك الضيق لأن الحب يولّد السعادة لصاحبه ومحيطه.
الحب… به تصير إنسانا، ويتقدمون للتبرك بك من أجل استعادتهم إنسانيتهم.