توالي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب محو آخر ما تبقى من فوارق في المواقف السياسية بينها وبين إسرائيل تجاه القضايا العربية.. وآخر التصرفات التي تعبر عن هذا التوجه ما قاله الرئيس ترامب ثم كرره وزير خارجيته مايك بومبيو خلال زيارته إلى المنطقة العربية حول الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية.
لقد قفز ترامب من فوق القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن والذي يؤكد أن الجولان سورية محتلة، وسلم وزيره معه بشرعية الاحتلال الإسرائيلي.
لم يتجاهل ترامب، ثم وزير خارجيته واقع الاحتلال الذي طمس هوية الأرض، والقرار الدولي فحسب، بل إنهما قد أنكرا وجود بعض الشعب السوري في هذه الهضبة المحتلة، وأصرا ايضا على إنكار انتماء أهلها ومعهم أرضهم إلى الجمهورية العربية السورية، مع أنهم لا يكفون عن تأكيد هذا الانتماء بالتظاهر من خلف الشريط المكهرب، دورياً، للتواصل مع أهلهم السوريين الواقفين في الجهة المقابلة، تفصل بينهم بنادق الاحتلال الإسرائيلي.
وبغض النظر عن هذا الخروج عن السياسة الأميركية التي كانت معتمدة خلال العهود السابقة حتى نهاية ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، فإن هذه التصريحات التي أطلقها وزير خارجية ترامب، واستمع إليها من المسؤولين الإسرائيليين خلال زيارته تل أبيب، في الفاصل بين زيارتيه لدولتين عربيتين، الكويت ثم لبنان، تمثل تحدياً مكشوفاً للإدارة الدولية، وقبلها للأمة العربية عموماً ولسوريا بشكل خاص.
واضح أن التراجعات المتوالية في المواقف العربية الرسمية يغري الإدارة الأميركية بالاندفاع قدماً في تبني السياسة التوسعية للحكومة الإسرائيلية.
ربما لهذا وأسباب أخرى كثيرة تتصرف الإدارة الأميركية، وخلفها إسرائيل، وكأن العرب بمجموعهم قد استسلموا وتخلوا عن حماية أرضهم الوطنية، وهكذا يخرج رئيسها دونالد ترامب بهذا التصريح العدائي والمحقر لقرار مجلس الأمن الدولي… ثم يكرره في حضوره نتنياهو، في البيت الابيض، قبل أن يوقع على قرار الاعتراف بقرار الاحتلال الاسرائيلي مرة أخرى.
والحقيقة التي يتوجب التوقف أمامها أن تخلي الأنظمة العربية عن وحدة الموقف تجاه قضايا المصير العربي، وأولها وأخطرها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ومن ثم الجولان السورية، يغري إسرائيل بالتوسع في استخدام العنف ضد المتظاهرين سلمياً في مختلف أنحاء فلسطين بعنوان قطاع غزة.. وهكذا نشهد سقوط الشهداء والجرحى يوم الجمعة من كل أسبوع، فضلاً عن القمع اليومي لأهالي الضفة الغربية وصولاً إلى البدو عند حدود سيناء المصرية.
كذلك فإن التذرع الأميركي ومن ثم الإسرائيلي بخطورة “المشروع الإيراني” في الهيمنة على المنطقة بما يشكله من “تهديد” للاحتلال الإسرائيلي لا يقبله عاقل، خصوصاً وإن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لم يشعر بهذا التهديد وهو يعقد مع الرئيس الإيراني حسن روحاني الاتفاق النووي… ولا ينفع هجوم ترامب المستمر على سلفه في البيت الأبيض في تزكية هذا المنطق الحربي الذي تستخدمه الإدارة الأميركية في الهجوم على إيران، ومن ثم على “حزب الله” في لبنان، الذي ينظر إليه المواطن العربي، من فوق رؤوس مسؤوليه، على أنه “بطل” خصوصاً أنه قد حقق ما عجزت عنه الأنظمة العربية جميعاً في مواجهة “التحالف” إلى حد “التوحُد” في مواجهة التوسع الإسرائيلي.
لقد تنامى المشروع الأميركي في المنطقة العربية مع تهاوي الأنظمة العربية أمام التقدم الاسرائيلي المستمر، بدءًا من خروج مصر ـ السادات على إرادة الأمة العربية وتسليمها بالصلح مع “الجانب الإسرائيلي” مباشرة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
كان ذلك الخرق للإرادة الشعبية العربية فاضحاً وقاسي الوقع على المشاعر القومية وتثبيتاً للنصر الإسرائيلي على إرادة الشعب العربي في كافة أقطاره..
ولقد أفادت الإدارة الأميركية من “سقوط” مصر لتمد نفوذها إلى كل الوطن العربي تقريباً.. خصوصاً وإن صدام حسين أكمل ما باشره السادات بالهجوم على إيران ـ الخميني، فتبدى وكأنه يطلب التحالف مع الإدارة الأميركية، التي لم تبدل من سياستها ازاءه إلا بعد قراره الأحمق باحتلال الكويت.
وكان مفجعاً أن تشارك بعض الدول العربية في القوات العسكرية التي هاجمت العراق في العام 1991 فاحتلت بعض أرضه وحطمت قواته العسكرية، تمهيداً لأن تحتل العراق كاملاً في نيسان 2003، ثم تعمل على النفخ في نار الفتنة فيه بتسليم السلطة إلى الشيعة ضمن “مراسم” كانت تهدف إلى تحريض السنة على رفض الحكم الجديد، أو ـ أقله ـ الانشقاق عنه.
بهذا تم استكمال الحصار على سوريا، تمهيداً لمباشرة العمل ضد النظام فيها بشخص الرئيس بشار الأسد، في استكمال واضح لخطة اسقاط العراق..
وهكذا تكون الولايات المتحدة الأميركية قد عززت تحالفها الاستراتيجي مع اسرائيل وحاصرت القوى المؤهلة لمواجهته، مبدئياً، وفتحت أمامه مجال التمدد في النفوذ داخل المنطقة العربية بكاملها.. وبهذا أمكن لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن يزور سلطنة عمان، وأن يعلن أن عواصم عربية أخرى إضافة إلى القاهرة وعمان مستعدة لاستقباله، مسقطة عن إسرائيل صفة العدو، برغم أنها قبل شهور قليلة قررت أنها ستنقل عاصمتها من تل أبيب إلى القدس الشريف، ووجدت بين الدول ـ في أميركا اللاتينية وبعض أوروبا ـ من يجاملها بنقل سفاراته أيضاً في محاولة لاسقاط حق الفلسطينيين في مدينتهم المقدسة عند المسلمين والمسيحيين.
إن الإدارة الأميركية بقيادة ترامب تسلك مع العرب، تحديداً، سياسة استعمارية صريحة: فهي تفيد من “داعش” لإدامة وجودها العسكري بل هيمنتها على العراق, وكذلك لزرع “قواعد” عسكرية لها في جنوب سوريا وبعض شرقها بذريعة “حماية الأكراد”.. كما تحاول “التسلل” عسكرياً إلى لبنان عبر قاعدة مطار حالات، بذريعة المساعدة على مواجهة “حزب الله” ومن خلفه إيران (متى تطلب الأمر ذلك!!).
لقد انتقل ترامب بالولايات المتحدة الأميركية من دولة جورج واشنطن التي قاتلت القوات الأجنبية فيها طلباً للحرية والاستقلال، إلى دولة احتلال أراضي الغير، لاسيما في المنطقة العربية، ربما بإغراء الضعف المستشري في الدول ذات الملوك والأمراء والرؤساء المفخمين، تستوي في ذلك دول الفقر بأنظمتها العسكرية ودول النفط والغاز بأنظمتها الملكية والأميرية الوافدة من الجاهلية، بشهادة جريمة قتل الإعلامي السعودي جمال الخاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول.
في هذا السياق، أيضاً، يمكن فهم تقصد وزير الخارجية الاميركي بومبيو شن هجومه على “حزب الله” من قلب بيروت، خلال زيارته لها مؤخراً، متجاهلاً أن “حزب الله” أكبر حزب سياسي مؤثر في لبنان وله ثلاث وزراء في الحكومة.
وهكذا يتوالى سقوط المسافة وتزايد التكامل حتى التوحد في المواقف بين واشنطن وتل أبيب، في ظل الغياب العربي بل تواطؤ الأنظمة العربية أو عجزها أو انشغالها بأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية الهشة، كما تشهد الجزائر، بلد المليون شهيداً طلباً للتحرر من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وليبيا التي اندثرت دولتها مع العقيد معمر القذافي.
إنها واحدة من أبشع المراحل في التاريخ العربي الحديث، ولا يكفي في تبريرها هذا التراجع المهين واتهام الأميركي والاسرائيلي والرجعية بالتحالف ضد الأمة العربية وحق أهلها في أرضها وفي المستقبل الأفضل.
المسؤولية عربية في البداية وفي النهاية.. وبعدها يمكن الحديث عن أدوار واشنطن وتل أبيب والرجعية العربية بملوكها والرؤساء والأمراء.
تنشر بالتزامن مع جريدة The Parliament الاميركية