قدر سليم الحص ألا يجيء إلى الحكم إلا في زمن الصعوبة.
أول مرة، وقبل اثني عشر عاما تماما، اختاره الياس سركيس من خارج النادي السياسي اضطرارا، ليباشر معه محاولة متعجلة لإعادة بناء الدولة، انطلاقا من افتراض سرعان ما ثبت خطأه بأن الحرب الأهلية قد انتهت، وبأن »الحل العربي« كما تصورته قمة الرياض المصغرة ثم اعتمدته قمة القاهرة، سيحسم المشكلات جميعا، السياسية منها والاقتصادية والأمنية والأهم: الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان.
وبرغم صيغة الاضطرار، وبؤس الأحوال العامة وحالة الدولة ومؤسساتها، فقد أكد سليم الحص جدارته وقدم للبنانيين صورة جديدة لرجل الدولة، أقل إثارة ولكن أكثر رصانة بسمته العلمي وأكاديميته ودقته وتطهره الذي طالما أزعج الآخرين!
ثاني مرة، وقبل تسع سنوات، لم يكن أمام الياس الهراوي، المنتخب بديلا للرئيس الأصيل، خيار، فاضطر الى تكليف من حفظ آخر معالم الدولة، ولا سيما أموالها، سليم الحص، على مضض… ثم عمل بلا كلل للتخلص في أسرع وقت ممكن من هذا »المتزمت« الذي يضطره الى الامتناع عن التدخين وعن كثير من المتع الأخرى التي يجب أن يمارسها فلا يستطيع بوجوده (أو حتى بغيابه إذا ما تذكرنا احتجاج الحص من نيويورك على مؤتمر صحافي عقده الهراوي في بيروت وقال فيه ما اعتبره »شريكه« من صلاحياته كرئيس للحكومة وزير للخارجية).
وهكذا ما ان انقضى زمن قرارات التحول الحاسم في البنية السياسية للدولة، من القرار باقتحام القصر الجمهوري لطرد الضابط »المتمرد« ميشال عون منه، الى الاصلاحات الدستورية، إلى حل الميليشيات، حتى »أُعفي« سليم الحص من مهامه غير مشكور، بل لقد أخرج بزفة من التشهير تصوره وكأنه متردد، وربما متخاذل، وغير مبادر، لا يجرؤ على اتخاذ أي قرار!!
وتنكر الطاقم السياسي الجديد الذي استولدته الحرب لسليم الحص، فشهروا به، هو الذي تحمل مسؤولية السلطة المنشطرة على ذاتها بعد استشهاد رشيد كرامي، ثم بعد »انقلاب« أمين الجميل الذي سلم فيه القياد لميشال عون، واستمر يواجه بصلابة وبغير ادعاء البطولة حتى استتباب الأمر لجمهورية الطائف فسلم الراية لخلفه عمر كرامي واعتكف في بيته مرتضيا أن يوصف بأنه »القدوة لا القائد«..
هذه ثالث مرة يأتي فيها سليم الحص إلى رئاسة الحكومة ملبيا نداء الاحتياج إلى كفاءته التي كان يُخشى بداية أن تكون أكاديمية أو غير عملية، والتي شهَّر بها قادة الميليشيات على الجانبين واعتبروها »خارج السياسة«…
لقد مرت ثماني سنوات طويلة على الإخراج القسري من سراي الحكم، لهذا الرجل الذي اختلفت من حوله الآراء كل الاختلاف فوصفه المواطن العادي بأنه »ضمير لبنان« بينما اتهمه قادة التطرف المسيحي بالتعصب الإسلامي في حين كان قادة التطرف الإسلامي يتهمونه بالضعف والتنازل ومسايرة المسيحيين بأكثر مما يجوز!
* * *
لعلها الأصعب، هذه المرة،
فسليم الحص يجيء الى الحكم بعد رجل ذي حجم أسطوري، وذي وهج مشع، وذي قدرة استثنائية على الحركة، وله رصيد من العلاقات السياسية، عربيا ودوليا، يكاد يعادل ثروته المالية، وهي بالمليارات، هو رفيق الحريري،
والحريري الذي »حكم« طوال ست سنوات استطاع، الى حد كبير، أن يغير قواعد اللعبة في لبنان: بالاقتصاد أولا ثم بالسياسة.
لقد وصل الى الحكم بأكبر من الحجم المألوف لرؤساء الحكومات، وها هو يخرج بدوي مشابه لذلك الذي يحدثه »الانقلاب«، ولو كان »أبيض«.
ثم انه كان »الحكومة« أو »مجلس الوزراء مجتمعا«، كما كان يصفه مناصروه إعجابا، وكما كان يهجوه خصومه للتشهير بتفرده أو بهيمنته أو بسطوته المتأتية عن مجموعة صفاته المذكورة أعلاه.
على أن مما يسهل على الرئيس سليم الحص مهمته الصعبة جدا انه، ولأول مرة، سيكون مع رئيس للجمهورية يشبهه في وجوه كثيرة، ويتفق معه على أساسيات الحكم وتوجهاته في المال والاقتصاد والاجتماع عموما، إضافة الى الثوابت السياسية.
لعله، ولأول مرة، سيكون شريكا في السلطة (أناء الليل وأطراف النهار، وليس خلال الدوام الرسمي، كما كان في عهد سركيس).
ولعله، ولأول مرة، سيجد من يحمي قراره، لا ينكر عليه دوره في اتخاذ القرار، او يمنع التنفيذ، ليظهره من بعد عاجزاً.
لقد مارس سليم الحص دور المعارض النزيه، الديموقراطي حقاً، البرلماني فعلا،
وها قد انقلبت الادوار فجاء »المعارض المحترف« أقله منذ ست سنوات، الى السلطة، وخرج الحاكم المحترف طوال ست سنوات الى ساحة المعارضة،
ولسوف تكون المحاسبة لسليم الحص يومية ومزدوجة: مرة على قاعدة برنامجه المعارض، ومرة ثانية بالمقارنة مع سلفه اللدود رفيق الحريري.
والحريري معارضاً سيكون ذا سطوة ايضاً، لان الكثير مما أنجزه او مما هو قيد الإنجاز خلال فترة حكمه، سيشكل التحدي اليومي لسليم الحص، المطالَب بأن يصحح من دون ان يوقف عجلة العمل، والمطالب بأن يوقف كل أصناف الارتكاب والهدر والإفساد والصفقات والخروج على القانون بغير ان يؤثر على حركة الاستثمار، والمطالَب بمعالجة قضية الدين العام وعجز الموازنة بغير ان يضيّق على الناس او يزيد من تعقيد أوضاعهم المعيشية.
ويبدو سليم الحص العائد الى السراي التي جددها رفيق الحريري وتوّجها بالكلمة المأثورة »لو دامت لغيرك لما آلت إليك«، شديد الحماسة لتوكيد كفاءته اقتصادياً وحيويته سياسياً وقدرته على اتخاذ القرارات مهما كانت صعبة وفي مختلف المجالات.
ولعل بين ضمانات سليم الحص استناده الى رئيس شجاع وذي قرار، مثل اميل لحود والى غطاء سياسي كثيف يسّر حصول »الانقلاب الابيض« فيما يشبه »الصاعقة في سماء صافية«، مثل الذي نقل الأكثرية بغير تمهيد من خانة الحاكم الذي صار معارضاً الى الرجل الذي جاء ليكمل »الثنائي المعارض« على قمة السلطة.
سليم الحص الثالث أمام الامتحان الأصعب،
لكن رصيده من الثقة في نزاهته وأهليته وكفاءته المكتسبة دائماً في مواجهة الصعاب يعزز الامل بأن ينجح،
وكذلك التحدي المفتوح لمعارضه الاسطوري: رفيق الحريري.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان