لم يكن طلال سلمان طارئاً على الصحافة، كما أنّ الصحافة لم تجنح به بعيداً عن نفسه بالشكل الذي تجعلهُ منفصلاً عن الصداقات والعلاقات. كانت ثمّة صلة يصعب تحديد شكلها النهائي أو البتّ في صورتها الأخيرة؛ تلك التي تجعل الصحافي يؤسّس لنوعٍ من الفصل المحمود بين المهنة والحياة. هذا الشرخ الاستثنائي يتيحُ لهُ أن يؤسس لمدرسةٍ خاصة به، تقوم على الموضوعيّة والتجرّد من دون التورّط في حيادٍ بارد وحياة تُعاش على نحوٍ لا يرى المرء فيها ضيراً في ما لو أقام صداقات ومعارف بينيّة، تستدرّ الخفيّ من الأخبار وتفضي بها إلى ظلٍ مكشوفٍ وغبشٍ مريء.
طلال سلمان حقيقٌ على ظاهرٍ ملفتٍ للانتباه في الكتابة. خُلقَ لكي يُشرفَ على أقلامٍ شتّى طابعها التباري ومساحتها التناقض. يُحسن كما لم يكن بوسعِ صحافي مسؤول على قيادة الآراء المتقاطعة على الاختلاف من دون عوزٍ أخلاقي. وفي الآن ذاته؛ تسعفهُ الموهبة على التأليف بين خطوط من النار، تقف أطرافٌ على رأسها تكتبُ فقط لكي تتباهى بالاختلاف تحت العنوان الواحد أو تستأثر بشهوة الاحتراب السلمي في هدنة الزمالة. وفوق هذا، ثمّة ما يقيم به – في الوقت عينه – استقامة قلمه فوق مكتبه واصطفاف حروفه على أرض ورقته. ذلك أنّ الكتابة في عرفه، تفتتح عهد الرؤية مجدداً في أفق تحبسه الخانات الضيقة وتحرّره الأذهان المحلّقة.
ليس في الوسع أن تجتمع هذه الصفات في إنسانٍ واحد، فيه مزيج غريب؛ من سياسيّ متعفّف عن خيانة مباحة للمهنة من أجل طموحٍ مشروع، ومتذوّق أصيل للفنون والموسيقى، وقارئ نهمٌ للثقافات، ومفتون من طراز رفيع بالأدب الفرنسي بشكلٍ خاص.
عندما أصدر طلال سلمان صحيفة «السفير» في 26 آذار (مارس) 1974 كان يرغبُ في تحقيق معادلة صعبة/ سهلة: أن تكون عربياً في لبنان ولبنانياً في العالم العربي. وربما تبدو هذه اللطيفة للوهلة الأولى توليفة يمكن تبنّيها لمجرد الاعتقاد بنبل مقاصدها، بيد أنّ الإفصاح عنها في خطٍ تحريريّ قائمٍ على الدفاع الأخلاقي على سلامة الغاية برغم تعذّر الوسيلة، ذلك أنّ المناخ القومي المتوفّر وقتذاك، لم يكن مثالياً بالشكل الذي تنعمُ فيه الصحافة الخاصة بالحريّة والاستقلال، حتى ولو كانت قوميّةً مثيلة الهدف. لقد كانت المِلكيّة الخاصة زمنذاك، استئنافاً مفترضاً للتحرّر من الجماعيّة. إنّ صوت الذين لا صوت لهم كشعارٍ افتتاحي يوحي للأنظمة التوتاليتاريّة باحتمال نشوء الخطر الفردي برغم ادّعائه تمثيل الجماعة، كما أنّه في المقلب المناوئ محلّ اتّهام جاهزٍ للنخبة بالشعبويّة والتنازل عن قواعد المهنة وشروطها لصالح أقواس العامة المفتوحة في كل الاتجاهات.
لكن الزمان قضى بغير ما جرى في ذهن المُحبطين، فقد نجح الشعار وصارت الصحيفة وسارت، والتأمَ الرهان تماماً على التجربة.
كانت فكرة القوميّة من دون أيديولوجيا صارمة؛ الفكرة التي قامت عليها تجربة طلال سلمان، فمنذ خريف عام 1962 تحت سماء الكويت عندما انضمّ إلى صحيفة «دنيا العروبة»، أصبح واضحاً جداً الخطّ الذي سينذرُ حياتهُ لأجله. وبرغم قِصر التجربة تحت قلم الصحيفة الآنفة، إلا أنّ مسمّاها قد ساهمَ بصورة ملحوظة في بناء شخصيّته الصحافيّة وصقل معمارها الأخلاقي، بدليل أنّه لم يزد عن عقدٍ من الزمان حتى جاءت «السفير» كملخّصٍ أكثر حرفيّة للهدف المنشود من دون أن تتقيّد بشروط التجارب السابقة وانتقالات رئيس تحريرها الكثيرة بين الصحف.
وحالما نضجَ المعنى تماماً في ذهن طلال سلمان، كانت افتتاحيّات «على الطريق» عناوين مطوّلة لمعانٍ شتّى، جمعها هدفٌ واحد وفرّقتها أساليب عدّة، جعلتهُ لقاء بقاء الطريق السالف بدون كمائن أو عوائق، يتحمّل بقاء انبساطه (الطريق) واتّصاله ضغوطاً عديدة بلغت حدّها الأقصى في محاولة اغتيال نجا منها فجر الرابع عشر من شهر تموز (يوليو) من عام 1984 عندما كانت بيروت أثقلُ من برميل بارود وأحدّ من إزميل باطون وأقسى من مسحاة حفر… كاد سلمان أن يفقد حياته جرّاء هذا الاستهداف المريع الذي تركَ شظاياه في رأسه ونثر زرادِ الحديد الساخن في صدره فور وقوفه أمام بيته في رأس بيروت.
ومثلما دفع سلمان ثمن ما اختاره لنفسه، لم تذهب «السفير» بعيداً عن قدره، فقد فُجّرت مطابعها في خريف عام 1980.
وتمرّ سنون وأيام وتُغلق صحيفة «السفير»، ويبقى مكانها خالياً ومحلّها شاغراً، يذكرها الناس فيكنّوا لها احتراماً خاصاً، فضلاً عن سيلٍ غير متقطّع من الذكريات… رافقَ توقّفها حديثٌ وجدانيّ مسهب حول حميميّة الورق ورائحة الحبر، كأنّ «السفير» قد بدأت حين وُلدت بغيمة ترقّب وانتهت حالَ احتجابها بموجة جدل.…
ضيف حمزة ضيف، صحافي وكاتب جزائري