الحزن كثيف ومرهف كحد السيف في تلك القاعة التي تلاقينا فيها لإحياء الذكرى الأولى لاغتيال شهيد الصحافة جبران تويني.
كان الشعور وكأننا نخوض جميعاً في دمائنا، حتى ونحن نتلاقى لنؤكد الإرادة والقدرة على الصمود.
أما في الخارج، فكان علينا أن نعبر في الذهاب، ثم خصوصاً في الإياب، أمواج القلق الوطني العام التي كانت تملأ قلب العاصمة وأطرافها والطرق المؤدية إليها وتنذر بانفجار مدمر وشامل، بحيث يصيب الكيان السياسي والأمان الاجتماعي بل ويتهدد وحدة الشعب بخطر الحرب الأهلية.
لم يكن بوسع كلمات جبران تويني المستعادة، ولا الأغاني التي يغلب فيها تحدي الواقع والإصرار على الحياة على حزن الفقد، ولا الكلمات الناضحة بالشجاعة والحكمة التي أطلقها غسان تويني أن تكشح جو القلق أو تخفف من ثقل وطأته التي كانت تعبّر عن ذاتها بسؤال يتبادله الكل مع الكل: هل نحن نشهد الآن نهايات وطننا الجميل؟!
ليس أعز من الأجوبة المطمئنة، في هذه اللحظة الحرجة… ولكن عندما بثت الكلمة المتلفزة للرئيس فؤاد السنيورة وجد فيها من استمع إليها بصيص أمل ما، ربما بتأثير ما كان يشاهده، عبر نوافذ مكتبه في السرايا، والذي اتخذ، أمس بالذات، شكل طوفان بشري غاضب ولكنه شديد الانضباط.
ولأن أحداً لا يريد أن يقطع أمله من بلاده وفيها فقد تعددت التأويلات والتفسيرات، خصوصاً أن في المدينة أكثر من مبادرة عربية، تترافق مع تحذيرات بل إنذارات جدية أطلقها غير مسؤول عربي حول خطر الغرق في طوفان الدم الذي قد تفجره التحديات المتبادلة بين الأطراف الموجودة الآن في الشارع، من حول السرايا الحكومية وداخلها.
وأخطر ما في هذه التحديات أنها تنتقل بالمشكلة القائمة من السياسة التي لم تكن في أي يوم موحدة ولا يريد لها أحد أن تتوحد لا بقوى تمثيلها ولا بخطابها ولا بشعاراتها أو برامجها، إلى ما هو خارج السياسة بل والعقل: إلى العصبيات والغرائز والعواطف المستثارة باسم الدين أو الطائفة بل المذهب.
سمع الناس من الرئيس السنيورة ما يفيد بأن لبنان قادر على مواجهة التحديات ومن بينها تحدي استيعاب المعارضات وتداول السلطة وفق نص الشرعية الدستورية … وفي البلاد، في هذه اللحظة، خلاف، أيضاً، حول الشرعية والدستورية.
وسمعوا منه، وما أكثر ما يسمعون منه هذه الأيام وبعدما بات معظم نهاره مكرساً لاستقبال الوفود الشعبية المؤيدة والمستعدة لأن تفتديه بالدم، ما يفيد أن لا طلاق بين اللبنانيين.. ويدنا مبسوطة للجميع، ولن نوصد الأبواب بل سنعمل على فتحها إلى الآفاق الرحبة… كما وقفنا في وجه محنة الاجتياح الإسرائيلي موحدين، ندافع عن بلدنا، سنقف معه في هذه المحنة ندافع عن قيمنا ونظامنا الديموقراطي ووفاقنا الوطني.. .
الكلام جميل، ووقعه على آذان اللبنانيين طيب، لا سيما في لحظة الاحتدام هذه، والتي قسمت الشعب إلى فئتين متواجهتين في الشارع.. من حول السرايا.
لكن كيف السبيل إلى نقل هذا الكلام إلى خانة الفعل؟!
إن ما ينشر عن الخلاف حول تفاصيل ما يسمى حكومة الوحدة الوطنية والثلث الضامن لا يستحق عناء المواجهة بالشارع تحت شعار: القصر أو القبر!.
كذلك فإن وضع مسألة المحكمة الدولية في
مواجهة إعادة صياغة الحكومة ليس مقنعاً بعد كل البيانات والتصريحات والخطب الصادرة عن المعارضة، وأبرزها ذلك البيان الذي وقعته قيادتا أمل و حزب الله ومعهما نوابهما بالكامل وفيه إعلان متجدد بالموافقة…
ثم إن التلاقي على مقترحات بكركي التي أجملت فوعت المطالب المختلفة وأدرجتها في سلة واحدة يسهل المهمة التي لشدة ما أثير حولها من جدل تبدت وكأنها مستحيلة ..
كذلك فقد تبيّن أن موضوع التبكير في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مع بقاء الرئيس الحالي في منصبه حتى نهاية ولايته، احتراماً للمقام وما يمثله، ليس موضع خلاف، بدليل أن أحداً لم يتوقف أمامه بالرفض القاطع..
وأخيراً فقد مسّ سحر آباء الكنيسة في لبنان، على ما يبدو، الأطراف جميعاً فإذا هم يعلنون مواقف تبدو متقاربة، أو متكاملة، وفي جميع الأحوال غير متناقضة… وربما لهذا اعتمدها رعاة المصالحات العربية وأولهم الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى وثانيهم مستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان إسماعيل..
بل إن الحماسة لهذه المقترحات قد دفعت بسعد الحريري إلى إعلان اقتراحه أن تكون بكركي راعية الحوار حولها من أجل التوافق، في حين أن وفداً من قيادة حزب الله زار بكركي لتأكيد تأييده لمبادرتها… أما الرئيس نبيه بري فقد أطلق، منذ زمن بعيد، كلمته المعبّرة: أنا أقف دائماً خلف بكركي … وهو لم يبدل موقفه هذا، في حدود ما يعرف الناس.
? ? ?
ما أبعد المسافة بين كلام القيادات وما يطلق في الشارع من شعارات وهتافات انقلابية .
وبرغم كل الصعاب والألغام والعروض المفخخة فالكل يتمنى أن تضيق هذه المسافة بعد عودة الموفدَين العربيين لاستكمال مساعيهما الحميدة، فيسمع اللبنانيون من الرئيس السنيورة على وجه الخصوص مثل الكلام الهادئ الذي أذيع أمس في الذكرى الأولى لغياب الصوت المدوي جبران تويني.
والأهم أن يسحب الخلاف من الشارع الذي بات شارعين متواجهين بشعارات تتجاوز السياسة إلى العواطف والمشاعر وحتى الغرائز وجميعها قابل للاشتعال والتفجر بالفتنة.
ولا يكفي، من بعد، أن نلعن من أيقظها، لأنها ستكون قد أكلت أصحاب الدعاء.