مع رحيل شارل حلو يطوي »النظام القديم« آخر أعلام »الجمهورية الاولى« وتنطفئ آخر الرموز الحية لمدرسة سياسية تناوبت على حكم لبنان لأكثر من نصف قرن، مخلفة وراءها »مدرسة« من صلبها في الجوهر وإن اختلفت عنها في شعارها وفي خطابها، كما أنها متخلفة عنها في الحذاقة والثقافة التوفيقية والمقدرة على ابتداع »حلول وسط« ترجئ الأزمات ولا تحسمها بحلول فعلية تفتح الباب لبناء وطن على أنقاض هذا الكيان الذي كان وما زال والارجح انه سيبقى »دولة قيد التأسيس«.
ولقد استأخر شارل حلو موته الجسدي بإرادة الحياة فيه، كما استأخر »موته« السياسي بقوة إيمانه بالديموقراطية، ولو نظريا، وبعمق ثقافته التي طالما مكنته من تغليف عجزه عن القرار بطبيعة المثقف المتردد دائما طلبا للحل الأكمل.. المستحيل.
وعلى امتداد رئاسته للجمهورية بين 1964 و1970 كان شارل حلو موضع التباس شديد، حول موقعه من الحكم الذي واجه في تلك الفترة اخطر التحولات التي شهدتها المنطقة العربية، وهل كان يحكم من موقع المعارض او يعارض من فوق سدة الرئاسة،
قيل أنه اختير لأنه الأضعف، ولأن »الشهابيين« المدنيين منهم في الظاهر والعسكريين في حقيقة الامر، أقنعوا به »معلمهم« فؤاد شهاب بذريعة محددة هي أنهم سيستطيعون إكمال ما كان بدأ به وان »النهج« سيتواصل عبره لأن قراره سيكون بأيديهم.
لكن التطورات التي داهمت الجميع احرجت الجميع ثم أخرجت الحكم من أيدي الجميع لتطرحه على القادر على أخذه من الشارع.
أزمة انترا بداية، وقد شكلت نقطة النهاية لعصر من الإزدهار الاقتصادي الذي سقط على لبنان بنعمة التدفق النفطي في أقطار الجزيرة والخليج، ثم بتأميمات الحقبة »الاشتراكية« في كل من مصر وسوريا والعراق،
بعد ذلك مباشرة جاءت هزيمة 1967 التي ضربت صعود الحركة القومية العربية وزلزلت مشروعها السياسي بقيادة جمال عبد الناصر، معيدة استيلاد قوى الانعزال والكيانية والقطرية على المستوى العربي، ومعيدة الاعتبار الى خصوم ذلك القائد العظيم ورجال الغرب الذين كانوا قد فقدوا شعبيتهم وسلطتهم ومشروعيتهم.
وكانت الرسالة الاسرائيلية الاولى الى لبنان فاقعة الدلالة: ضرب مطار بيروت في الأيام الأخيرة من سنة 1968 لتعلن نهاية »الحقبة العربية« وبداية »العصر الاسرائيلي«،
بين هذه وتلك كانت الجبهة الداخلية قد شهدت تصدعات خطيرة، فتجمع »خصوم النهج« من الكيانيين تحت لافتة »الحلف الثلاثي« الذي شكل الهجوم المضاد على »الشهابية« بما هي التزام بموجبات التضامن العربي كاد يصل الى إعلان الانتماء للحركة العربية، لاسيما مع قيام مؤسسة القمة العربية، وصدور قراراتها الاولى بتحويل روافد مجرى نهر الاردن (وفيها ينابيع وأنهار لبنانية) وقيام القيادة العربية الموحدة واعتماد قرار بتسليح الجيش اللبناني (طائرات الميراج والرادار وصواريخ كروتال)…
ثم جاء اتفاق القاهرة في خريف 1969، وبعد صدامات محدودة وتحركات شعبية واسعة »بشرت« بانتقال الصراع العربي الاسرائيلي الى الداخل عبر استثمار نشط للحساسيات الطائفية وللمخاوف من التمدد الفلسطيني (المسلح) المغطى بهيبة عبد الناصر الذي كان قد استعاد الكثير من وهجه عبر حرب الاستنزاف مع العدو الاسرائيلي الخ..
بعد 1967 كان شارل حلو قد خرج نهائيا على »النهج«، وكان أهل »الحلف الثلاثي« ينظرون إليه على انه »الشريك الرابع«، خصوصا وانه قد غض الطرف عن مباشرة بعض التنظيمات اليمينية إنشاء ميليشياتها المسلحة في العام نفسه (الكتائب، 1968).
وحين حان موعد انتهاء ولاية شارل حلو كان فؤاد شهاب قد أصدر نبوءته التاريخية بأن النظام اللبناني العاجز عن تطوير نفسه والقاصر عن فهم التحولات واستيعابها إنما هو الى اندثار، معلنا خروجه نهائيا من الحياة العامة.
وهكذا انفتحت الطريق عريضة الى الرئاسة امام مرشح الحلف الثلاثي سليمان فرنجية الذي استثمرت لبنانيته الى أقصى حد لرعاية الخروج من وعلى التوجه العربي السائد الذي تلقى الضربة القاصمة بوفاة عبد الناصر بعد أيام قليلة من انتصار فرنجية على الياس سركيس (مرشح الشهابيين) بأكثرية صوت واحد.
وكانت حركة المقاومة الفلسطينية قد اصطدمت بالنظام الاردني فانتصر عليها وأخرجها من حيث كانت قواعدها الأساسية ومراكز قيادتها فجاءت بقضها وقضيضها الى بؤرة الانقسام في لبنان.
أعد المسرح تماما ولم تعد الحرب الاهلية تتطلب اكثر من إطلاق الرصاصة الاولى، ولقد أطلقها الاسرائيليون بهجوم الكوماندوس واغتيال ثلاثة من أبرز قادة المقاومة الفلسطينية في بيروت، في نيسان 1973 (وكانت العملية للمصادفة بقيادة ايهود باراك)، وحصلت الصدامات الاولى بين الجيش اللبناني ومسلحي المخيمات الفلسطينية التي كان مقدرا لها ان تنفجر على مستوى لبنان كله بعد عامين بالضبط من موعد عملية باراك في بيروت.
* * *
لعل هذا الاستعراض التاريخي ضروري للتعرف على موقع الراحل الكبير شارل حلو على خريطة التحولات في لبنان، وهي التي استكملت مسارها الدموي حتى اتفاق الطائف في خريف 1989، ثم كان على »الجمهورية الثانية« ان تنتظر إنهاء »تمرد« العماد ميشال عون بعد سنة بالتمام، ليمكن إقرار الاصلاحات الدستورية التي حسمت جدالا طال واستطال لنحو ربع قرن، قبل ان »يسقط« النظام القديم الذي كان لا بد من سقوطه لإتاحة فرصة بداية جديدة لإعادة مباشرة البناء في هذه الدولة التي كانت وما تزال وستبقى »قيد التأسيس«.
وإذا كانت الذاكرة الشعبية تحفظ عن شارل حلو اتهاما له بالتردد وبعدم الحسم وبالميل الى الحلول الوسط ومحاولة التوفيق بين الماء والنار، فإن ثمة إجماعا على احترام الحس الديموقراطي المرهف عند هذا »المثقف الغربي« الذي يجد نموذجه المطلوب على الضفة الاخرى من المتوسط، والذي ظلت الفكرة العربية شيئا في »الخارج« بالنسبة إليه، برغم انه نشأ وعمل لبعض الوقت في سوريا.
إن شارل حلو أحد أنجح التلامذة في مدرسة ميشال شيحا، التي تعتبر »مؤسسة« النظام اللبناني، لكنه ظل »نظريا« الى حد كبير ولم يستطع برغم واقعيته ان يكون »بشارة الخوري« الثاني برغم قربه منه وانتسابه الى الشبكة العائلية ذاتها التي اعطت النظام القديم او الجمهورية الاولى العديد من رجالاتها.
لعل العيب في ان التحولات الديموغرافية في لبنان كانت أسرع من التطور الفكري (والعملي) عند أهل النظام،
ولعل القصور في التجربة السياسية عند »الجيل الثاني« من أهل النظام جعلهم يخطئون في فهم التحولات العربية ومدى تأثيرها على لبنان الستينات والسبعينات.
ولعل الثقافة الغربية المشبعة بها هذه النخبة من اهل النظام القديم قد وقفت حاجزا دون إدراكهم للتأثيرات الحتمية لهذه التحولات في الداخل والخارج، على صورة لبنان عموما، وصورة الحكم فيه على وجه التحديد.
على ان شارل حلو قد اجتهد وحاول في سنواته الأخيرة ان يلحق بالتطورات، وان يستوعب الدروس التي عجز أهل النظام بعامة عن استيعابها.
والصورة الأخيرة لشارل حلو في الذاكرة الشعبية ستظل تلك التي التقطت له عند افتتاح أعمال المجلس النيابي الجديد في 20 تشرين الأول الماضي:
لقد حرص »الديموقراطي« في شارل حلو على أن يجيئ ليشهد الجلسة محمولا فوق كرسيه ذي العجلات.
لكأنه كان يريد أن يقول ان »التحولات« التي تأخر في استيعابها، ولا سيما أنه قد تم تهذيبها وأحسن إخراجها بصيغة ديموقراطية لا ترفضها ثقافته الغربية.
رحم الله شارل حلو: الرئيس الذي حاول أن يحكم من موقع المثقف، فأغنى البلاد بثقافته أكثر مما أغناها بتجربته الرئاسية، ولكنه ظل »ديموقراطيا« حتى يومه الأخير.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان