يصعب الحديث عن كلوفيس مقصود بصيغة الماضي .
إن حضور هذا المثقفِ الموسوعي ، الظريفِ ، الطريفِ ، اللطيفِ ، المؤنسِ ، من على البعد ، المُثقِفِ وهو قريب ، العارفِ بأحوال الدنيا وهو في قلبها ، الخبير حتى الوجع بأحوال العرب وهو منها في الصميم ، القارئِ ، الباحثِ ، الدارسِ ، الكاتب بإحساسه المعزز بثقافته الجامعة ، الصديق ، الرفيق ، العارف ، الغارفِ من المعارفِ، والذي عاش الأزمان العربية كافة : النهوض البهي والإمساك بالأحلام عبر تحقيق دولة الوحدة ، والأخذ الأولي بمبادئ الاشتراكية، وتحرر الجزائر ، الثورة في العراق، والثورة المعجزة في اليمن الخ .قبل أن تتوالى النكسات حتى الهزيمة المرة واكتمالها بزيارة العار .
في كل هذه الأحداث كان كلوفيس مقصود حاضراً،بالفكر والقول،خطيباً ، وكاتباً متظاهراً ومحاضراً في المنتديات الدولية ، كسفير للأمة بأطيافها جميعاً ، لا يزعجه اسمه بل يرى فيه شهادة إضافية له .
صناجةُ العرب هو ، حتى بعدما تخلى الكثير من العروبيين ، حزبيين ومناصرين لبعض الأحزاب والحركات السياسية القومية عن عروبتهم ، وابتعدوا يساراً حتى تجاوزوا صين ماو وخلفائه المتطرفين .
المفكرُ الداعيةُ، المروج والمنظم ، الجامع بين كمال جنبلاط ونهرو وجمال عبد الناصر وبين المستنيرين في بعض أوروبا وبعض الخليج ، مقاوم الاجتياح الرأسمالي في الولايات المتحدة ومتقدم صفوف العزاء بشيوعية يوغوسلافيا تيتو .
-2-
ابن وادي شحرور وكفرشيما ، الذي استقبله والده معلقاً : ” صبي بشع بس مهيوب ” ، الذي نشأ في أحضان يسارية جورج حنا وتقدمية كمال جنبلاط وعروبة جمال عبد الناصر والشيوعية الانتقائية لجوزيب بروزتيتو .
القارئ حتى إتعاب عينيه ، والمحاضر حتى أتعاب جمهوره ، الطريف في تعليقاته التي لا تبلغ ذروتها إلا في حضور مناكفه ومنافسه منح الصلح أو ” البيك ” اختصاراً وتعريفاً بهذا العارفة الذي لا يغيب عن علمه أحد أو بلد أو واقعة ، ولا يهمل قلمه حدثاُ أو حزباً أو قائداً وإن عف عن النساء ..والذي امتنع عن التوقيع مع أنه كتب مجلدات في شؤون لبنان والقضايا العربية لثقته بأن القارئ سيعرفه من الكلمة الأولى …ولعل كلوفيس كان يتمنى أن يبارزه في ” الخطي ” فيغلبه ويعوض هزيمته في ” الشفوي ” ..
خطب كلوفيس مقصود الداعية أكثر مما كتب كلوفيس مقصود المفكر ، وحاول إحياء جامعة الدول العربية بإكسير العروبة وبركات الشاذلي القليبي، وناصر فلسطين كاتباُ بالعربية والانكليزية وخطيباً باللغات جميعاً والإشارات والحفلات والمحاضرات . واجه دعاة إسرائيل الناطقين بالانكليزية والفرنسية والعبرية والسنسكريتية ولغة الإشارات فهزمهم جميعاً.. ولم ينتصر بقومه !
وحين كتب بالعربية و جد نقادأ أكثر مما وجد قراء.. فالعرب ينتقدون أولا ثمّ يباشرون القراءة ولا يكملون ، لأنهم يلقطونها على الطاير ويفهمون بالومى ( أي الإيماء ) فلماذا إنفاق الساعة على فهم المفهوم ومعرفة المعروف ؟!
المفكر ، الكاتب ، الخطيب ، الداعية ، الظريف ، الصديق ، الرفيق ، الذي لم يعرف الكراهية إلا للصهاينة ، والذي أحب الناس جميعاً لا سيما من يستهجن مواقفه متسائلاً ” كلوفيس وعروبة ” … والذي دعاه الرئيس العظيم جمال عبد الناصر إلى تغيير اسمه ليكون عربياً .. وحين سأله : بماذا تريد أن استــبدله ؟ رد عــبد الناصر: – قحطان .. ضحك كلوفيس وسأله : أليس عندك حل وسط ؟!
-3-
كان اجتماعياً. يغزو بيوت النواعم، بقدر ما يقبل دعوات القلة من وجهاء السياسة وعشاق الكلام والمدققين في معلوماتهم عن عاصمة الكون،ومخططاتها المعدة لمنطقتنا ،والتباري في سرد ما يعرفونه،وأكثر مما يسمعون عن مشاريع البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون لمنطقتنا …في حين كان اهتمامه أن يعرف هناك ما تحضر لنا، كعرب، إسرائيل بالتواطؤ والتأثير الفج على الإدارة الأميركية مستفيدة من تأثير ونفوذ اللوبي الصهيوني عليها .
لقد انتدب كلوفيس مقصود نفسه ليكون صوت الأمة.
ولما تهاوت الجامعة العربية قرر أن يكون هو الجامعة،
ولما اندثرت أو كادت تندثر العروبة في سياسات الدول متدثرة العباءات المذهبة قرر الداعية أن يتحول إلى حزب فجبهة، ثم اندفع يقول: أنا الأمة، وكل هؤلاء هواء بهواء.
كان شديد التهذيب. لكن ذلك لم يمنعه مرة من أن يقول رأيه.أحياناً يغلفه بالتاريخ،وغالباً بالنكتة، أحياناً بإشارات مكلفة، وفي أحيان أخرى بتغيير موضوع الحديث، ثم تمرير رأيه في سياق مختلف.
كان الداعية، كتابة وخطابة والرواية الطريف الظريف في مجالس الأنس.
ولقد اكتملت دنياه مع حياته بالمناضلة ذات البهاء المشع والشجاعة التي يستولدها الإيمان، هالة سلام، فأمدته بطاقة إضافية، وأكملت عليه دنياه، وأمدته بشجاعة فوق شجاعته، وهي تنصب خيمة الاحتجاج، باسم فلسطين، أمام البيت الأبيض في واشنطن، لتشهد العاصمة الكونية على جرائم العدو الإسرائيلي التي يجبن العالم، عادة، أمامها فيكتفي بالإدانة اللفظية، كـأن الكلام المفرغ من المعنى يعيد الحياة إلى المقتول ظلماً على ارض وطنه، والذي يراد إجباره على نسيان انتمائه إلى ترابه وسمائه وحجره ومائه وشمسه ونجومه وانتماء أرضه إليه حياً وميتاً..
-4-
كلوفيس مقصود المفكر ،الكاتب، الداعية، الخطيب المفوه، المحاضر المقنع، الظريف، اللطيف، عاشق الحياة، الصديق الذي لم ينس يوماً أصدقاءه، والذي يتكور جسده حتى يكاد يتخذ شكل القلب بعينيه اللتين يوهمك انه لا يرى بهما فإذا به ينبهك إلى نحلة تقبع فوق سترتك السوداء.
لقد فقدنا رجلاً عظيماً. ابناً صادقاً لهذه الأمة التي يتنكر لها الآن الكثير من قادتها المهابين.
رحم الله كلوفيس مقصود ورحم معه المناضلة التي ولا اصلب هالة سلام، وكذلك صديقه اللدود منح الصلح ، وقد شكلا معاً نزهة فكرية في عاصمة العرب، كتابهم ومقهاهم ومطبعتهم وصحيفة الصباح قبل أن تنطفىء أنوراها.