الهوية سلعة. تُباع وتُشترى. لها كلفة وسعر؛ وقيمة استعمال، وقيمة تبادل. لها سوق، وعرض، وطلب، ومنتِج، ومستهلك.
قبل كل شيء، الهوية مصدره هو. يعني أنها علاقة تحدد الذات بالآخر. عندما تحدد بما نحن عليه من عرق، ولون، وإثنية، الخ…، تجنح نحو العنصرية، وهذه تولد الفاشية. عند الإغريق كان الإله جانوس له وجهان. فلنقل أن للهوية وجهان، واحد نصنعه نحن وآخر يصنعه لنا الآخر. السلطة أو الاستعمار أو الامبريالية أو زعماء الطوائف. على العموم تجار النخاسة. هي بمعنى ما علاقة بين “الأنا” و”الآخر”، بين “نحن” و”هم”. عندما تصنعها الذات تكون مصدراً للحرية. عندما يصنعها الآخر تكون مصدراً للسيطرة.
هي حالة ذهنية، منتج ذهني. حق الملكية الذهنية، يملكها من يصنعها. يملكها من تنسب إليهم في حال كانوا من القوة، بحيث يمكنهم الاستحواذ عليها، واستخدامها لخدمة مصالحهم. يكون حق الملكية لغير من تُنسب إليهم في حال صنعها هذا الغير. أحيانا يصنعها الغير وينتزعها منه آخرون. في زمن الامبريالية، ومنذ القرن التاسع عشر، صُنِفت الشعوب كما صُنف كل شيء آخر. لم يكن التصنيف بريئاً. علم “أصل الأنواع” الذي أوصله داروين للقمة، صار بيد آخرين علماً زائفاً لتصنيف البشر.”اليوجينيكس” علم زائف. لكن أقيم له مختبرات في الولايات المتحدة مولتها مؤسسات مثل روكفلر وكارنيجي. سُنّت في بعض الولايات الأميركية قوانين لتقرر الشرطة على أساسها من هو بحكم “الوراثة” أو الجينات ( التي لم تفك ألغازها بعد) سيكون مجرماً أو مدمنا أو لوطياً. ذلك قبل أن تستورد هذا العلم ألمانيا النازية، وتصنع له مؤسسات، قُرِّرَ فيها مستوى الشعوب على سلّم الحضارة؛ وقُرِّرَ فيها من يستحق الإبادة من الشعوب والأعراق. وكان ما نعرفه من مصانع الإبادة في اشويتز وغيرها. بالمناسبة كان في إدارة تلك المحارق يهود أميركيون من الذين ساهموا في مختبرات الولايات المتحدة، وتم استيرادهم الى ألمانيا مع علمهم الزائف لمتابعة البحث والتنفيذ هناك.
قليلة هي الشعوب التي تتحكم بمصيرها. في كل بلد استولت عليه الامبريالية، أنشأت دولا، وفي نفس الوقت اخترعت هويات إثنية وقومية داخل هذه الدول، لتحركها عندما تحين الساعة. بالطبع لم تخترع الامبريالية هذه الهويات من لا شيء. ما قبل الهويات موجود منذ زمن وعبر التاريخ. منها من لم يتحرّك قوميا وإثنيا، ومنها من لم تكن له لغة مكتوبة. عندما تبني البيت فإنك على الأرجح تبنيه من الأحجار الموجودة قريباً. نادرا ما تستورد أحجارا من البعيد. والامبريالية إن لم تخترع الهوية لشعب صغير يدعو الى الانفصال، فإنها غالبا ما تشجعه بوسائل سياسية، وبإيجاد قواعد لكتابة لغته. كثيرة هي الشعوب الصغيرة والمتوسطة، والتي لم تكن لها لغات مكتوبة. كانت تكتفي باللغة المحكية وحدها. من هذه الشعوب الصغيرة من كان يتكوّن من أقل من مليون بشري، وقد حصلت دوله على استقلالها. لدى الأمم المتحدة حوالي 20 دولة صغيرة مستقلة وذات سيادة. لكن معظم الهويات الصغرى باقية في دول كبيرة. تعددها في دولة واحدة سبب للمشاكل الاقتصادية أحيانا. الدولة الكبيرة التي لا تعتمد التعددية تعرّض نفسها للابتزاز، عن طريق الاثنيات والقوميات والطوائف المتحولة الى قوميات. والدول الامبريالية جاهزة للتلاعب بالأقليات. تصنع لها هوياتها القومية أو تساهم في ذلك. وتستخدم الأمر لممارسة الضغوطات السياسية.
في زمن النيوليبرالية يصبح التلاعب بالأقليات الكبيرة جزءاً من السياسة العدوانية للامبريالية. يمكن مجابهتها بالسياسة. كأن تعتبر الدول الكبيرة أن لهذه الأقليات الحق بلغتها وباستقلالها الذاتي داخل الدولة. ليس كل تحرك لأقلية مؤامرة. ينخفض حظ المؤامرة في دولة ديمقراطية، دولة السياسة، ويرتفع حظها في دولة الاستبداد. دول الاستبداد أكثر تعرضاً لتحركات الأقليات وتحالفاتها من الدول الديمقراطية، والتي تسمح بالفيدرالية وحرية اللغات الخاصة بالأقليات، والامتناع عن فرض لغة الأكثرية بالقوة. كأن دول الاستبداد تستدعي الامبريالية للعب والمناورة بقضايا الأقليات. الاستبداد يوفر المناخ لمناداة الأقليات بالدعوة الى قيام كياناتها الذاتية حتى الانفصال السياسي. في هذه الحال، تساهم القوى الخارجية في صنع أو اختراع هوية للأقليات المضطهدة. يكون في الاستبداد كل الشعب مضطهداَ. لكن الأقليات تعتبر القمع الذي تعانيه مميزاً. تعتبر أنها اختيرت للقمع أو أن قمعها أو اضطهادها مزدوجاً. إذ هي لا تستطيع ممارسة الشعائر والتقاليد الخاصة بها، كليا أو جزئياً. تتطلّع الى فردوس مفقود. هو أصلا لم يكن موجوداً. الفردوس عندها حالة مستقبلية. تعتقد أن انفصالها سيحقق هذا الفردوس. على الأرجح لن يكون الانفصال أو الفيدرالية (في ظل القمع) إلا مقدمة لحرب أهلية فيما بين أطرافها، وداخل الأقلية المنفصلة.
المجتمع الذي يصنع هويته، يصنع في الحقيقة هوية الأكثرية والأقليات. هذا يتطلّب قدراً كبيرا من الفهم والتفهّم؛ قدرا كبيرا من السياسة. هو يصنع كيانا لا يستطيع الخارج القوي الامبريالي النفاذ منه واليه. المجتمع الذي يصنع هويته مع انفتاح واستيعاب للأقليات هو المجتمع القوي. ضعفه يتأتى من عدم قدرته، أو عدم إرادته، على الانفتاح والاستيعاب. ضعفه يعني في حالات كثيرة أن تصنع القوى الامبريالية الخارجية هويته، أو على الأقل هوية الأقليات. ما يبدو مؤامرة خارجية هو في حقيقته ضعف داخلي. الاستبداد هو دائما ضعف داخلي. إنتاج مجتمع هش قابل للانكسار. المجتمعات القوية التعددية المنفتحة، حيث الانتماء للدولة أقوى من الانتماء لهويات صغرى، هي المجتمعات غير القابلة للكسر. وهناك فرق كبير بين الدمج والاستيعاب. غالبا ما يكون الدمج قسريا، يقود الى الضعف والهشاشة الاجتماعية.
الوجه اللآخر لذلك هو عندما تتحوّل الأكثرية ذات اللغة الواحدة والتطلعات الواحدة الى أقليات تتناحر فيما بينها على أسس طبقية، أو جغرافية، أو عشائرية، أو مذهبية، الخ… الضغط الداخلي الناتج عن الاستبداد يفتت المجتمع، ما يسمح بالتدخل الخارجي.
تتحوّل الهوية من قيمة استعمال الى قيمة تبادل. كل يصنع هويته. الهوية كقيمة تبادل عرضة لأن تباع وتشترى. استعباد من نوع جديد. العبيد يباعون ويشترون. يتحوّل البلد الى سوق نخاسة. تصير الهوية سلعة. استهلاكها يتوقف على موازين القوى. الأقوى أكثر قدرة على استهلاكها: هو في هذه الحالة الخارج الامبريالي. لا يضطر هذا الخارج الى الاحتلال بالجيوش. هو احتلال بالهويات. الضعف الاقتصادي أدى الى احتلال بالمال (الاستثمارات إن اتت). والضعف المجتمعي أدى الى الاحتلال بالهويات. أحيانا تتحوّل الهويات الى حروب أهلية. يجري استهلاك الهويات داخلياً. نظام الاستبداد بارع في استهلاك الهويات. هو السبب الرئيسي لإنتاجها.
سعر الهويات في استهلاكها، سواء جاء من الداخل والخارج، هو دائما أقل من الكلفة، والتي يدفعها المجتمع هشاشةً، وتفتتاً، وتشلعاً، وتراجعاً، وتأخراً، وتخلفاً.
للهويات مواد أولية لصناعتها. المواد الأولية موجودة منذ زمن سحيق. عادات، وتقاليد، ولغات، وطموحات. بالسياسة يمكن أن تصنع مجتمعاً متماسكا على درجة عالية من الاندماج والاستيعاب. بانعدام السياسة تصنع مجتمعات هشة متهالكة. انعدام السياسة يحدث دائما مع الاستبداد والانغلاق وانعزال المجتمع. يتشلّع المجتمع الى مجتمعات كل منها منغلق على نفسه.
عندما فقدت الامبراطوريات العثمانية والهابسوبورغية والروسية قدرتها على البقاء، قامت على أساسها دول قومية. ازدحمت مدن الدول الجديدة بمهاجرين من الريف، وبمثقفين كانوا ما زالوا منغمسين في أفكار وايديولوجيات موروثة من المجتمعات الزراعية التقليدية. الحداثة التي اكتسبوها في المدن، مراكز الحداثة، هي حداثة تغلف جوهرا زراعياً بأفكارها ووعيها. نزح الفلاحون الى المدن بأساليب عيشهم. وجاء المثقفون بأفكار مجتمعاتهم الزراعية. تبنت الدول الحديثة النابتة هنا وهناك ايديولوجيا الحديثة وما تطلّب ذلك من أفكار حديثة، لكنها كلها كانت مركبة على مجتمع زراعي لم يعد موجودا. هم في المدينة وعقلهم في الريف رغم بعض المظاهر المتبناة. لم يكن السلوك الجديد مفتعلا. بل كان طبيعياً. لكنه حمل معه رومانطيقية المثقفين الجدد والحنين الى عالم قديم، ربما يكون متخيلاً. الى فردوس مفقود. بنوا في أذهانهم اليوتيوبيا المتوقعة على هذا الأساس. فكان الدين، لا العقلانية، محركا أساسيا من محركات التفكير الجديد، كذلك علاقات القرابة وغيرها من العلاقات الأولية. نقلوا معهم البنية الفوقية للريف الى المدينة. لذلك كان لا بد أن يحصل صدام بينهم وبين سكان المدن الأصليين. وكان لا بد لهذه الصدامات أن تعبّر عن نفسها بالانقلابات العسكرية (معظم الجنود ذو أصول ريفية). اختلافات اللغة ظهرت بين الوافدين الجدد والسكان الأصليين الذين كانوا من أصول إثنية ولغات مختلفة. صار هؤلاء الأصليون في المدن أقليات، وكان ممكنا إجلاؤهم من قبل قوميات جديدة لا تستطيع قبول التعددية أو ما نسميه الكوزموبوليتية. تم تهجير الكثيرين من سكان المدن في وجه القادمين من الريف. المميزون منهم شكلوا أكثر من نواة ثقافية حيث هاجروا خارج بلادهم.. أما في الوطن العربي من أقصاه الى أقصاه، فإن البلدان الجديدة يتكلم سكانها لغة واحدة، وإن بلهجات مختلفة بين المدينة والريف. على كل حال، الشروخ الجديدة لم يمكن تجاوزها بالقسر. أبناء النازحين الى المدينة صاروا الأكثرية في الجيوش الجديدة. القمع كان ضروريا لدمج هذه المجتمعات لا للحفاظ على تعدديتها وكوزموبوليتها. حلت الجيوش الجديدة مكان الجيوش الامبراطورية القديمة. وحلّ معها مجتمع من النازحين الجدد المتجانسون مع العسكر. كان لا بدّ من القمع لإرساء قواعد لم يفهمها الجدد كما لم يتحملها القدماء. كانت النتيجة بأن سيطرت أصولية دينية في المدن للدفاع عن النفس. الريف نفسه، أو من تبقى فيه، تقبل الأصولية برحابة صدر. لم تكن الأصولية الدينية ذات جذور تقليدية بقدر ما كانت آلية للدفاع عن النفس، وعن أسلوب عيش لم يطق الحداثة الجديدة التي طبقت بالقمع والجلافة والبدائية. القومية التي حكمت مع القادمين الجدد الى المدينة كانت ايديولوجيتها حداثوية، وإن تبنت نفس العداء للتقليد، ولأسلوب العيش المفترض. مجتمع، بشكل عام، لم يترك له مجال للتطوّر، بل أجبر على الانتقال الى حياة جديدة لا تناسب تطوّر العيش التقليدي. مورست أساليب العيش الجديدة بفظاظة، وتأخر أهل الريف. تحالف المثقفون الجدد مع العسكر. نشأ شرخ في المجتمع. رأت الأقليات أن الاندماج الجديد سوف يشملها، فتمسكت بسياسات الهوية. اصطنعت، واصطُنِعَ لها، هويات. كان بعضها من صنعها، وكان بعضها من صنع الغير. إفقار الريف لصالح المدينة لم يراعِ هذا الأمر. ما ادعته الأنظمة من اشتراكية أو تسيير ذاتي كان وسيلة لردم الهوة، لكنه وسيلة قمعية لفرض اندماج مجتمعي لم يكن ضروريا. شعار تطبيق الشريعة الذي شاع في المدن كان بالحقيقة ليس من أجل الشريعة، التي لم يفهمها إلا خبراء قليلون من رجال الدين. كان من أجل الحفاظ على التقليد وأسلوب عيش يرفض أهله تعهيره. الدين أفيون الشعوب، كما قال ماركس، لكنه قال متابعا هو زفير الشعوب المعذبة. من هنا نبتت وتفرعت جماعات دينية. صارت إرهابية، كما سميت، فيما بعد. ومن هنا أيضاً تكاثرت الهويات لجماعات هي في الأصل دينية ولغوية. اضطهدت جميعها لبحثها عن حماية خارجية أو لصلاتها مع جماعات تماثلها في أقطار أخرى. جرى تخوينها.
تشلعت مجتمعاتنا واشتد الخلاف والاختلاف بين أجزاء كل مجتمع. سبب ذلك القمع والاستبداد وفرض الدمج القسري. ابتعدت مجتمعاتنا عن تعددية كان يمكن الاستمرار بها بواسطة السياسة. أنظمة الاستبداد ألغت السياسة. صار مدار البحث “من أنا” بدل من “ما سوف أكون”. “من أنا” يأتي الجواب عليه من الماضي. “ما سوف أكون” يعني صنع المستقبل. سلبت مجتمعاتنا من صنع المستقبل. صارت تعيش جحيما جديدا هو الفردوس المفقود الذي لم يوجد أصلا.
لا مانع عند النظام العالمي، الرأسمالية المالية، في عصر ما بعد الاستعمار المباشر، من استعمال الهويات الجديدة والهويات التي تفرّخ هنا وهناك. “هويات قاتلة” كما سماها أمين معلوف. هي حداثات قاتلة فرضتها أنظمة قاتلة، عندما فرضت على مجتمعاتها إلغاء السياسة لإجبار المجتمعات على تطوّر غير ما كانت مستعدة لتبنيه بالتطوّر التدريجي. عسكري جلف جاء الى السلطة ومنع مجتمع المدينة من الاتصال بالغرب، بعد أن كان هذا الاتصال ساريا منذ مئات السنين. وقع العسكري الغر في فخ النيوليبرالية.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق