صانع الفرح لا يحظى عادة بما يليق به من الحزن،
ربما لأنه يجيء من خارج دائرة الحزن، ويعيش خارجها، ويستدعيه الناس ليخرجهم منها، وليحملهم على أطراف ريشته، وعبر النغمة الشجية، الى عوالم يشتهونها، ولكن أيامهم تُعجزهم عن بنائها أو عن بلوغها إلا عبر جو من الأحلام والأوهام السندسية المموسقة،
صانع الفرح، مدغدغ الأحلام، المتخصص باستيلاد ”الآه” من الصدور المكتظة بالهموم وأسباب الاكتئاب، رحل من غير مشيعين ولا من يرثي ريشته أو يمنحه وسام النغم، أو يطلق اسمه، مثلاً، على رنة عود.
سعيد سلام،
الرجل الذي ينطق فيُنطق بأصابعه، في حين تتعثر الكلمات على لسانه، لأنه يتقن لغة وحيدة يقول بها كل ما يريد أن يوصله الى الناس.
لم يكن سعيد سلام رجل علاقات عامة.
لم يكن حضوره خبراً، وربما لهذا لم يكن في الغياب ما يثير.
كان يُطلب فيجيء بهدوء، يجلس صامتاً، منزوياً في الغالب، في انتظار أن يأتي دوره الى الخلف مخلياً الساحة للمطرب أو للمطربة، لا يتقدم إلا إذا أراد الساهرون أن يستمعوا الى النغم مصفى، فيطلقه رقراقاً حنوناً معافى، وعندما يطمئن الى الاصغاء يكافئ أنامله بابتسامة تضيء وجهه وقلبه ولكنها لا تطلق لسانه…
لم يعرف سعيد سلام أن ثمة علاقة وطيدة، هذه الأيام، بين اللباس والموسيقى، بين افتعال الأستذة والتصرف كعبقري منفوش الشعر براق الأصابع لماع الثياب، وبين إطلاق النغم ليسعد الناس ويمتعهم ويدغدغ فيهم مكامن الحس بالجمال.
لذلك ظل التعامل الرسمي معه وكأنه مجرد ”الآتي”. إنه عواد، لا أكثر!
ربما منَّ عليه البعض بلقب ”أستاذ”، مجاملة، لكنه لم يعط نفسه مثل هذا اللقب، وظل يعتبر نفسه مجرد تلميذ ودارس يحاول أن يدخل بلاط الأساتذة الكبار، بأدائه واجتهاده الشخصي. لعله يوصل تلك الألحان الخالدة التي ابتدعها محمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب والشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي وفريد الأطرش وبليغ حمدي وآخرون ممن استقروا في وجدانه، في حين امتلأت نفسه حتى أطراف أصابعه بالنغمات البكر التي عاش أسيرها، في حين كان يبدو وهو يعزف وكأنه سيدها.
ليس كل الناس عباقرة. لكن للمتقنين والمخلصين والمجتهدين نصيباً في تعميم العبقرية وإشعاعها على الناس المتشوقين للحظة سعادة، ولو عارضة.
سعيد سلام لم يعد بيننا.
لقد نقصت لحظات السعادة النادرة.
لقد سقطت نغمة شجية، وأخذت معها صداها، مخلّفة مزيداً من وحشة الصمت.