في يدي فنجان القهوة يقترب من فمي ومن خلفي صوت مبتهج بالفرحة الحقيقية صادر عن امرأة دخلت لتوها من باب المقهى، الصوت منتعش ولكن أيضا عالي النبرات واضح الغرض وهو إبلاغ مجموعة نساء يشغلن المائدة الأقرب لمائدتي بالرسالة التالية “الحمد لله، ما أروعكن معا، صديقات العمر مجتمعات ولا رجل واحد بينكن”.
***
نظرت حولي. الموائد في المقهى كثيرة، كلها باستثناء مائدتين أو ثلاث تحتلها سيدات. الرجال في المقهى على اتساعه قليلون يحتلون منفردين موائدهم، كحالتي. بقية الموائد تجلس حول كل منها جماعة نسائية بأعداد تتراوح بين ثلاث نساء وعشر. لحظتها تذكرت عشاء عمل قبل يومين في مطعم كبير لفت نظري زميل جلس بجواري إلى حقيقة أن معظم موائد المطعم تشغلها نساء من كل الأعمار وبخاصة من متوسطات العمر وأن الزبائن من الرجال نادرون وبعضهم بصحبة زوجاتهم.
سألت أقارب وقريبات وزملاء وزميلات فأكدوا جميعهم أن ملاحظتي تعكس ظاهرة حقيقية وملموسة، وهي أن النساء أصبحن بالفعل يفضلن الخروج في جماعات نسائية أكثر من أي وقت مضى، وذهب العديد ممن تحدثت معهن إلى القول بأن أكثرهن يفضلن هذا الوضع عن الخروج في جماعات مختلطة. أمسكت بهاتفي ورحت أطلب صديقات وزميلات في دول عربية لأسألهن عن الظاهرة إن وجدت في بلادهن. جاءت الإجابات تؤكد وجودها.
***
انتهت مرحلة التعرف على الظاهرة وبدأت في إثرها مرحلة إطفاء فضولي لمعرفة أسبابها. لم يغب عن بالي طول الوقت ما حفلت به ذكرياتي عن سنوات طفولتي وبخاصة عن أيام نهاية الأسبوع فيها. أذكر تماما وبكل الوضوح صورة الأهل وقد اجتمعوا في بيت جدتي. أذكر جيدا أن الرجال، وأقصد الأزواج في عائلتي، لم يكونوا يحضرون هذه الاجتماعات الأسبوعية. كانوا يلتقون فقط في مناسبات بعينها وهي العزاء وزيارة المقابر والأفراح. أكاد أكون واثقا من أن أبي ما كان ليتعرف في الطريق العام على إحدى خالاتي لو تلاقيا صدفة. حكيت هذه الواقعة من ذكرياتي لكل من شاركني البحث عن إجابات لأسئلة تسعى لإشباع فضولي. هل الظاهرة قديمة قدم المجتمعات الإنسانية أم أننا أمام شكل جديد لها أو أننا أمام ظاهرة أسبابها جديدة تماما.
***
بين من سألت كانت السيدة نفسها التي دخلت المقهي مبتهجة لمنظر صاحباتها وقد اجتمعن بدون رجال. قدمت نفسي لها في تقديم مطول كشفت فيه عن فضولي معرفة سر ابتهاجها بخروجها المتكرر منفردة، سألتها إن كانت تتعمد النأي بنفسها وزوجها عن الخروج ضمن مجموعات مختلطة الجنس، أجابت، “بلى، نخرج والأولاد معنا في الإجازات والأعياد”. ثم أضافت بالسؤال إن كنت أدري أو لا أدري أن رجل اليوم يفضل قضاء وقت أطول في البيت منفردا. زوجي لم يعد يخرج كما كان يفعل في أولى سنين زواجنا، كما أنه لم يعد يعترض على خروجي بدونه”.
استطردت تجيب بأن “امرأة اليوم تعلمت وصار لها رأي في قضايا كثيرة كان الرجال يحتكرون الرأي فيها والمناقشة أيضا. دعني أعترف بأنني لم أعد أتقبل الكثير من آراء زوجي بل وأعترض عليها أمام زملائه وأصدقائه. يريد فرض رأيه وهو يعلم كم أنا أكره فرض الرأي. نحن النساء تغيرنا. أنا بالتأكيد لست مثل أمي ولا أقول جدتي التي أختلف معها كل الاختلاف في علاقاتها بجدي وأولادهما. نحن معشر النساء، صارت لنا اهتماماتنا ولنا أولوياتنا المختلفة مع اهتمامات أزواجنا وأولوياتهم. واقع الأمر، ولعل حضرتك توافقني، أن المرأة بحكم أنها تعلمت واشتغلت وخرجت من بيتها صارت تقضي مع رجال آخرين وقتا أطول من الوقت الذي تقضيه مع زوجها وتتخذ قرارات كانت في السابق من اختصاص الرجال”.
***
تحدثت مع أخريات من كافة التخصصات والفئات والطبقات. كنت متيقنا من أن في داخلي دوافع أخرى غير مجرد السعي لإشباع فضول. شيء ما كان يثير القلق في نفسي. هذا البيت الذي خرجت منه سيدة البيت إلى الشارع أو إلى المقهي أو النادي إلى متى سوف ينتظر عودتها كما عرفها في سابق زمانهما؟ وإن عادت فهل سوف تجد البيت مرحبا وراضيا أم طاردا وغاضبا. سألت سيدات، أكثرهن أقسمن على أن البيت أفضل حالا مما كان عليه حين كانت سيدته مقيمة فيه دواما كاملا. إن خرجت فهي تخرج لأداء مهام سريعة كالتبضع أو لزيارة طبيب. تعود مسرعة خشية أن يأتي سيد البيت فلا يجد الغداء جاهزا ودافئا وفراشه مرتبا ومستعدا لاحتوائه ساعة القيلولة. وسألت وسألت. سألت واحدة قادت لمدة طويلة حملة لتمكين المرأة، أي إعدادها لتكون امرأة مؤمنة بقوانين الحرية الفردية كما في دول الغرب. الغرب الذي يحاول تشكيل العالم على صورته.
قالت تعليقا على ما ذكرت وتحريت وإجابة على ما سألت وبخاصة سؤال عن الانفراطات العائلية الناتجة عن ظاهرة الزيادة المكثفة لحالات الطلاق في مصر، “يا صديقي لعلك لا تعرف أن المرأة المصرية الجديدة، المتعلمة أو المثقفة أو العاملة، إختر منهن من شئت، ما تزال تعتبر نفسها ضحية ثورة يناير، ثورة ميدان التحرير. هذه المخلوقة امرأة متمردة. لوحوا لها في الميدان، وفي ميادين أخرى كثيرة، بمستقبل يكسبها هيبة، ويسبغ على عائلتها نعما وخيرات وفيرة. لم يحدث.
“هذه الدولة خرجت من الثورة أشد بأسا وانتقتها مع مثيلاتها لتمارس عليهن القسوة. خرجت دولة قاسية. الأحلام انقلبت أوهاما، والأمل صار يأسا. تمردت النساء على أزواجهن. من يومها راح الزوج يتصرف كالمأزوم. والزوجة تتصرف بعناد ورغبة في الانتقام كما لو كان كل الرجال مسئولين عن أزمات الدولة وأزمات البيت. انفرطت بيوت وتفسخت بيوت أخرى. انتقلت الزيادة في حالات الطلاق من سنوات أواسط العمر إلى السنوات الأولى وأحيانا الشهور الأولى من الزواج، حتى قيل إن زيجات كثيرة تنتهي بعد أيام من العودة من شهر العسل”.
***
أدخل بيوتا عريقة وبيوتا حديثة لا أقابل فيها من تشبه جدتي ولا من يشبه أبي أو أصدقاء أبي. لا أبحث فيها عن نموذج (سي السيد) ولكني أنقب بين الأزواج عن رجل عرف كيف يقود سفينة الزواج في بحر هائج، أمواجه متلاطمة تتقاذف فيما بينها ضحايا كثيرين. أعرف أنه موجود، وحتما سوف أعثر عليه. لا أبحث فيها عن نموذج “أمينة” زوجة “سي السيد”، ولكني أنقب بين الزوجات عن امرأة عرفت كيف تختار من بين الفرص العديدة المتاحة تلك التي تحقق التكامل في البيت بين رجل وإمرأة، امرأة عرفت كيف تتفادى اختيار الفرص التي تباعد بينهما. امرأة لا تتعامل مع الرجل كمنافس ترقى المنافسة معه إلى مستوى العداء أو الصراع الدائم، امرأة تدرك أنها لا تسعى لتحتل مكان الرجل في البيت أو مكانته أمام أولاده وأصدقائه، امرأة لا تخجل من السعي لمعرفة إيجابيات أمها أو تتردد في الاقتباس من سلوكيات نساء في مجتمع حقق أعلى نسب الوفاق واستقرار العائلة الصغيرة.
***
أشعر أن هذه المرأة موجودة وحتما سوف أعثر عليها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق