يتوفر لدى روسيا الاحتياطي الغازي الاضخم عالميا. وقد اتفقت روسيا منذ منتصف عقد الثمانينات مع الدول الاوروبية على تزويدها بإمداداتها الغازية، فشيدت الانابيب طويلة المدى ومحطات الضخ لايصال الغاز، التي بلغت تكاليفها المليارات من الدولارات. استمر تدفق الغاز الى اوروبا بشكل طبيعي ومستقر حتى هذا العقد. عارضت الولايات المتحدة بشدة الاتفاق الروسي الاوروبي الاستراتيجي منذ الثمانينات. رغم ذلك، فقد هيمنت الامدادات الغازية الروسية على سوق الغاز الاوروبي لسببين رئيسيين: توفر الامدادات الروسية الضخمة لتلبي الطلب المتزايد على الغاز في اوروبا. بمعنى انه كان من الصعب توفير الامدادات الضخمة من دول مصدرة في حينه. ولتشييد شركة غازبروم الروسية البنى التحتية اللازمة من خطوط الانابيب ومحطات الضخ لايصال هذه الامدادات الى دول السوق الاوروبية دون انقطاع رغم الخلافات السياسية، حتى مؤخرا.
طرأت في الآونة الاخيرة تحديات مهمة لهذه السياسة الروسية الغازية. فقررت دول السوق الاوروبية المشتركة تقليص الاعتماد الكبير على الغاز الروسي، وبالذات بعد ان تبنت اوروبا فعلا استعمال الغاز الطبيعي كالجسر ما بين عصر الهيدروكربون الى عصر الطاقات المستدامة (الشمسية والرياح)، نظرا الى انخفاض انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون من الغاز، وبعد ان بدأت الشركات الامريكية تخطط لتصدير الغاز الصخري الى السوق الاوروبية بمعادلات سعرية منافسة للمعادلة السعرية الروسية.
تحفزت الدول الاوروبية لايجاد بدائل للغاز الروسي بعد الخلافات الروسية ـ الاوكرانية حول سعر الغاز الروسي الى اوكرانيا. وقد شكلت اوكرانيا منذ عهد الاتحاد السوفيتي دولة عبور مهمة لخطوط الغاز الروسي الى اوروبا. وكانت تستلم حصة من هذا الغاز باسعار مخفضة لاستهلاكها الداخلي. السبب وراء هذه الاسعار المخفضة هو مساواة الاتحاد السوفياتي في حينه لسعر الغاز في روسيا لسعره في دول اوروبا الشرقية الموالية لها. لكن بعد انهيار النظام الشيوعي في روسيا، بادرت موسكو برفع اسعار الغاز محليا في روسيا نفسها، من ثم قررت ان ترفع ايضا رفع اسعار الغاز لدول اوروبا الشرقية ايضا اسوة بسعر الغاز الروسي الجديد.
رفضت اوكرانيا هذا القرار واستغلت موقعها كممر عبور لخطوط الانابيب، فقررت في باديء الأمر عدم الالتزام بالسعر الجديد. لكن أصرت موسكو على موقفها بحيث حاولت ايقاف تدفق الغاز عبر اوكرانيا الى اوروبا. وتوقفت الامدادات فعلا لساعات محدودة ولكن كان ذلك في فصل الشتاء حيث البرد القارص مما ادى الى ازدياد المعارضة لهيمنة الغاز الروسي. كما تصادف هذا القرار مع بدء التخطيط لتصدير الغاز الامريكي الصخري، مما فتح المجال لاستيراد الغاز المسال الامريكي، وبمعادلات سعرية اقل ثمنا من الغاز الروسي. وهذا العامل الاخير اثار حفيظة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي حذر في مؤتمر غازي عالمي عقد في موسكو بان “اي تحدٍ للمعادلة السعرية الروسية الى اوروبا هو تحدٍ للأمن القومي الروسي”. وبالفعل بدأت روسيا تخطط لرسم خطوط انابيب واسواق بديلة لاحتياطها الغازي الضخم.
قررت روسيا تشيد خطوط انابيب جديدة الى اوروبا، متفادية عنق الزجاجة التي شكلتها اوكرانيا، فاخذت تصدر الغاز عبر تركيا وعبر بحر البلطيق مباشرة الى المانيا. من ثم يتم التحضير حاليا للتصدير الى اوروبا من خطوط انابيب جديدة تتفادى دول العبور السابقة.
كما تبنت روسيا سياسة جديدة كليا لتفادي التحديات، هدفها الولوج في اسواق ضخمة جديدة. فاتفقت لتزويد الصين بالغاز الطبيعي عبر خط انابيب يمتد بين البلدين ذات طاقة ضخمة ومسافات طويلة المدى بالاضافة الى تزويد الصين بالغاز المسال الذي يتم انتاجه وتصنيعه في القطب الشمالي.
من الجدير بالذكر، ان الاحتياطات الروسية الضخمة تكمن في حقول كل من سيبريا الغربية (التي تزود اوروبا بالغاز) وسيبريا الشرقية (التي ستزود الصين بالغاز) والقطب الشمالي (لتزويد الغاز المسال الى الصين حاليا ودول اخرى مستقبلا). تعتبر الصين من جانبها أضخم سوقا مستهلكا للغاز في العالم.
في ضوء هذه السياسة الجديدة، ستبدأ روسيا خلال الاشهر القليلة المقبلة تشغيل خط انابيب جديد لضخ الغاز الى الصين. ومن اجل تزويد هذا الخط بالامدادات اللازمة، بالاضافة الى تزويد الخطوط الثلاث الجديدة الى اوروبا، ستزيد روسيا انتاجها الغازي نحو 109 مليار قدم مكعب سنويا، اي زيادة بحوالي نصف ما تصدره حاليا.
لأجل تنفيذ هذه السياسات، افتتحت روسيا رسميا في 2 كانون الاول (ديسمبر) الحالي خط غاز “قوة سيبريا” الى الصين بطاقة 38 مليار متر مكعب سنويا. وسيدشن الخط الثاني “ترك ستريم” بطاقة 15،75 مليار متر مكعب سنويا في 8 كانون الثاني (يناير) المقبل الى تركيا، وهناك ايضا الخط الغازي الثالث من روسيا مباشرة الى المانيا والسوق الاوروبية عبر بحر البلطيق “نورد ستريم 2” بطاقة 55 مليار متر مكعب سنويا وتكاليف 10.5 مليار دولار الذي يتوقع افتتاحه في النصف الثاني من عام 2020.
هناك ابعادا جيواستراتيجية واقتصادية مهمة لمشاريع تصدير الغاز الروسية الجديدة التي تديرها شركة غازبروم العملاقة. فالانبوب الى الصين هو لتزويد سوق استهلاكي ضخم جديد. والانبوبين الاخرين لتزويد السوق التركي المهم واستعمال تركيا كدولة عابرة وتزويد اوروبا بتفادي دول العبور السابقة. وبهذا تكون روسيا قد حصلت على سوقا جديدا في الصين وتركيا وشيدت خط عبور جديد الى السوق الاوروبي متفادية دول العبور السابقة.
بالاضافة الى خطوط الانابيب الجديدة هذه التي تديرها شركة غازبروم، اخذت روسيا تعير اهتماما متزايدا لشركة نوفاتيك الروسية لاكتشاف وتسويق الغاز من القطب الشمالي وتصدير هذه الامدادات بشكل غاز مسال الى الاسواق العالمية بشحنه بحرا، متفادية بذلك العراقيل الجيوسياسية من عقوبات امريكية واوروبية لخطوط انابيب شركة غازبروم (واحدة من أضخم شركات الغاز في العالم).
اكتشفت شركة نوفاتيك حقل يامال في القطب الشمالي، وقد انتجت وصدرت الغاز المسال بنجاح من هذا الحقل العملاق، بالتعاون مع شركة توتال الفرنسية. تعمل شركة نوفاتيك، التي تحصل على دعم كبير من الحكومة الروسية في تطوير حقول بحرية جديدة. فهناك على سبيل المثال، حقل غاز جديد في الشرق الاقصى لروسيا، حيث تنوي تصدير 6،2 مليون طن سنويا من الغاز المسال عبر الناقلات المتخصصة لاسواق شرق اسيا القريبة.
من ثم، تحاول السياسة الروسية تبني ثلاثة أبعاد لتفادي بعض العراقيل الجيوسياسية التي بدأت تواجه صادراتها الغازية:
اولا: تشييد خطوط انابيب جديدة الى اوروبا تتفادى فيها دول العبور السابقة المتكونة من دول اوروبا الشرقية.
ثانيا: تطوير حقول بترولية في مناطق جديدة، مثل سيبريا الشرقية والقطب الشمالي، بالاضافة الى المناطق البحرية المحاذية للحدود الشرقية الشمالية الروسية.
ثالثا: دعم شركة روسية جديدة على الصعيد الدولي. فالشركة الروسية البترولية الابرز حتى الان كانت ولا تزال شركة غازبروم. لكن أصبح من الواضح الان، ان شركة نوفاتيك ستلعب دورا متزايدا من خلال تركيزها على اكتشاف الغاز في القطب الشمالي ومن ثم تزويد الغاز المسال في الناقلات المتخصصة الى سوق ضخم جديد في الصين بالإضافة الى اسواق اخرى مستقبلا.
*كاتب عراقي متخصص في شؤون الطاقة
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق