ليس رئيس الجمهورية عموما هو الممثل الشرعي والوحيد للمسيحيين، ويجب ألا يكون.
إنه رئيس كل اللبنانيين، وهو مسيحي ماروني لأسباب «وطنية» تتصل بتأصيل الوحدة بين اللبنانيين وتعميقها، ولتأمين مناخ صحي، ودائما بأفق وطني وقومي، لمواجهة مسألة الأقليات وتوكيد وحدة الأمة بمختلف عناصرها، بغير تمييز.
وليس رئيس المجلس النيابي الممثل الشرعي والوحيد للشيعة في لبنان، ولا يجوز أن يكون.
إنه رئيس السلطة التشريعية، حصن الديموقراطية، وملاذ المطالب الشعبية (من حيث المبدأ)، و«شيعيته» ليست بذاتها مصدر كفاءته أو أساس استحقاقه لهذا الموقع السياسي الخطير.
وليس رئيس الحكومة الممثل الشرعي والوحيد للسنة في لبنان، ولا يجوز أن يكون.
إنه رئيس حكومة لبنان كله، ونجاحه في القيام بموجبات دوره لا سيما في فترة إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، هو المعيار، وقوته في وضوح رؤيته وفي توفير عناصر النجاح للمشروع السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الذي تحتاجه البلاد، في هذه المرحلة الدقيقة.
وإذا ظل الرؤساء الثلاثة ممثلين شرعيين ووحيدين لطوائفهم فلن تكون دولة ولن تكون لها مؤسسات، ولن يكون ثمة قانون أو من يخضع لقانون!
سيكون أي اتفاق بينهم تواطؤاً ومحاصصة، وأي خلاف بينهم فتنة!
وفي الحالين ستكون النتيجة القضاء على الحياة السياسية، ومن ثم على النظام الديموقراطي البرلماني، واستطرادا على المؤسسات جميعا وعلى «حكم القانون» بل وعلى القانون نفسه.
…
الوطنية تسمو على الطوائف وتحاصر ثم تهذب الحساسيات الطائفية وتعالجها بهدوء حتى يشفى منها المصابون بها بالاطمئنان إلى مصيرهم كما إلى دورهم في حياة بلادهم.
وليس شرط الوطنية التبرؤ من الدين، فالوطني قد يكون مسلماً وقد يكون مسيحياً، وقد يكون شديد الالتزام بالطقوس أو متخففاً منها، ولكن موقفه الوطني هو المنطلق والأساس في عمله السياسي، خصوصا وهو يندب نفسه للعمل العام، ويرتفع (بالانتخاب) الى سدة السلطة.
كذلك فليس الحكم في لبنان، ويجب ألا يكون، ائتلافا أو تحالفا غير مقدس بين من يدّعون احتكار التمثيل الشرعي والوحيد للطوائف، على اختلافها.
ان ادعاء الوكالة الحصرية أو الاحتكار للتمثيل الطائفي أو المذهبي هو أحد أهم الأسباب التي أوصلت إلى الحرب الأهلية: انتفت السياسة، وضاعت الحدود بين ما هو وطني وما هو معاد للوطن، … وصار أي خلاف في السياسة أو حول الموضوعات السياسية الاقتصادية الاجتماعية انشقاقا وإشعالاً لنار الاقتتال الطائفي.
وجاءت بدعة «الترويكا»، في جمهورية الطائف، ردة أو ارتدادا، إذ بدل أن يُباشر بإلغاء الطائفية السياسية، تمّ التوكيد على حصر التمثيل الطائفي فوق قمة السلطة.
والثنائية داخل «الترويكا» أشبه بحكم إعدام على كل ما هو وطني.
إنها أشبه بعبوة ناسفة لركائز الوحدة الوطنية ولأولويات النظام.
إنها اغتيال علني للحياة السياسية ونفخ في جمر الانقسام المذهبي، بعد الطائفي، وكلاهما يلغي ويسقط الادعاءات الديموقراطية.
فالمذهبية، من حيث المبدأ، أشد فتكا وأسرع التهابا وأعظم قدرة على التدمير من الطائفية، خصوصا وهي تستند على «تراث» دموي موغل في القدم، ولكنه قابل للاستحضار، فحساسيته لم تنقص أبدا بل ولم تكف عن التوالد وتسميم الضحايا على الجانبين جيلاً بعد جيل.رأى اللبنانيون أن الرئيس القوي بوطنيته سيعزز في الحكم مناخا صحيا لا مجال فيه ومعه لانتعاش بل استشراء الغرائز الطائفية والحساسيات المذهبية.
ورأوا انه، بوطنيته، سيكون قوياً بين المسيحيين كما بين المسلمين، بمختلف طوائفهم، والأهم: قويا عليهم جميعا ليس فقط لأنه لا يطلب لنفسه شيئا بل لأنه لا «يمثل» أو يدعي تمثيل أو يحصر في نفسه تمثيل طائفة بالذات.
والمؤكد ان اللبنانيين لا يريدون إحياء «الترويكا» بثلاثة ممثلين أقوياء للطوائف الثلاث الكبرى… بل يريدون حكما وطنيا قويا بالوطنيين والديموقراطيين على الطائفيين!
ومؤكد أيضا انهم لا يريدون، بأي حال، ثنائية بين كل زوجين منهم!
فالثنائية مثل «الترويكا»، بل هي أشد فتكا وإيذاء، إذ تُبقي السلم الأهلي في مهب رياح الفتنة، وتعطل قيام الدولة، وتغتال المؤسسات، وتلغي حكم القانونإن اللبنانيين يريدون رؤساء أقوياء بهم مجتمعين، لا ثلاثة يحاول أو يسعى واحدهم إلى الاستقواء على الآخرين لتقسيم اللبنانيين طوائف ومذاهب لكل منها «قوي» يواجه شريكيه اللدودين!
والحكومة الجديدة، بدءا «بشروط التكليف» وانتهاء بمواصفات التشكيل هي أول امتحان جدي لقدرات الرؤساء كرجال دولة ولالتزامهم الوطني وليس لقوة تمثيل كل منهم لطائفته.
بل ان مجرد الحديث عن قوة التمثيل الطائفي للرؤساء يهدد بإجهاض مشروع الدولة بدل أن يكون التوافق وضمن مناخ وطني على الحكومة هو الاعلان «الرسمي» عن الدخول فيه ومباشرة إصلاح السلطة بدءاً برأسها.
البلاد تحتاج إلى الجميع، شرط أن يكون كل في موقعه الصحيح، وتحت القانون دائماً، وضمن الصلاحيات الدستورية لا خارجها..
نشر في جريدة “السفير” بتاريخ 30 تشرين الثاني 1998 (بتصرف)