يتميّز لبنان عن سائر الدول العربية، في المشرق والمغرب، بأنه يتمتع ببقية من الحياة السياسية تتجلى أكثر ما تتجلى في الحرب الدولية التي تسبق وتواكب معركة «انتخاب» رئيس جديد للجمهورية (بينما تحول هذا المنصب في الجمهوريات العربية الأخرى إلى مُلك مطلق، وإن تمت المحافظة على الشكليات الجمهورية..).
وبرغم أن الحياة السياسية تكاد تنعدم في لبنان وتقتصر تجلياتها على اللقاءات المن دون موضوع، والاجتماعات التي تنتهي ببيان لا يقول جديداً، فإن كل «الإخوة العرب» يتابعونها بشغف متابعتهم لصراع الفرق العالمية لكرة القدم على المواقع الممتازة، أو لصراع الثيران في إسبانيا.
فالإخوة العرب يمارسون ترف الحديث في السياسة فقط حين يختارون لبنان بفولكلوره السياسي كموضوع للسمر في سهراتهم، وأحياناً قد يتطرفون فيسمون المرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية فيه، وربما امتدحوا أحدهم، غيابياً، بل ربما استدعوا بعضهم للتعرف إلى مواقفهم، متناسين أنهم لن يسمعوا إلا ما يرضيهم… لأن أصول الضيافة تقتضي اللياقة والامتناع عن مديح الذات والتعويض عن ذلك بكشف المخفي من سيرة المنافسين لشطبهم عبر التشهير بتاريخهم الحافل بالفضائح وأخطرها العداء للنظام الملكي.
ذلك أن السياسة في مختلف أنحاء الوطن العربي «وقف ذري» لا يُسمح بتعاطيها إلا لأبناء الأسرة (الملكية أو الجمهورية لا فرق)… وبالتالي فإن «السياسة» من اختصاص القائد الفرد، سواء أكان ملكاً أم أميراً أم رئيساً للجمهورية. فالكل باق في منصبه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، والدستور ـ حيث هناك دستور.. ـ مرن وقابل للتعديل، أما في الممالك والإمارات فاعتماد دستور مكتوب يخالف شرع الله، والملك لله يمنحه لمن شاء، ومتى شاء.. أما الأجل فمحتوم، لكن قراره عند الله سبحانه وتعالى..
صحيح أن لبنان بلا رئيس للجمهورية، وبحكومة لا تنعقد كمجلس وزراء إلا في المناسبات التاريخية الفاصلة (كتصدير الزبالة بكلفة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات… أو تعيين الشواغر في المجلس العسكري حياءً من الجيش الذي يخوض حرباً ضد إرهاب «داعش» و «النصرة» ومن شابههما)..
لكنها ليست المرة الأولى التي تعيش الجمهورية بلا رأس، بل لقد تكررت هذه الواقعة حتى كادت تصير عرفاً… وآخر رئيسين تركا القصر الجمهوري للفراغ، في ظل حكومة معطلة عن الفعل ومجلس نيابي لا يكتمل نصابه إلا ليجدد لنفسه ولايته.
إذن، لا جديد تحت الشمس في لبنان، غير هبّة ترشيحات مفاجئة لمنصب رئيس الجمهورية، بقيت أشبه بالمناورات السياسية وإن تركز «أخطرها» على محاولة شق صفوف جماعة 8 آذار، وتحديداً على محاولة إحراج «حزب الله» باختيار أحد أركانه (سليمان فرنجية) لمنافسة الركن الماروني القوي والمرشح البديهي والمعلن (ميشال عون..).
هكذا عاش اللبنانيون والإخوة العرب، وبالتحديد منهم أصحاب مجالس المنادمة والمسامرة في الجزيرة والخليج، ساعات ممتعة من التشفي بـ «حزب الله» الذي بات عليه أن يفاضل بين حليفَين أساسيين من حلفائه (الموارنة)، وبالتالي فسوف يخسر أحدَهما أو كليهما في لعبة المفاضلة..
ثم، فجأة، ومن خارج التوقع، استطاع الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله، أن يتجاوز هذا الفخ، بتغليب الموقف المبدئي والالتزام بالحليفين، فإذا تعذر وصول الأول، لأسباب تتصل بالآخرين، فهو بالتأكيد مع الثاني «نور العين».
وهكذا بات عند مجالس السمر الملكية والأميرية موضوع سياسي، من خارج النص، لكي يتسلوا بتفاصيله، هرباً من أعباء الحروب الظالمة التي يشنونها مباشرة، أو بالواسطة وبكلفة خيالية، في العديد من البلاد العربية الشقيقة التي يعيش كل فرد فيها بين موتَين: في البيت أو على الطريق إلى موقع العمل أو فيه.
أما اللبنانيون فيواصلون حياتهم في قلب الفراغ السياسي، تاركين أصحاب الألقاب الملكية يستمتعون بالحكايات والطرائف اللبنانية التي تخلق «السياسة» في قلب الفراغ، في حين تتهاوى الحروب الملكية على العديد من الدول الشقيقة مخلفة دمار الأوطان وتشريد الشعوب برجالها والنساء والأطفال الذين يغرقون في بحار الظلمات كل يوم… ولا يشغل بالهَم إلا تهاوي أسعار النفط التي قد تحرمهم من مواصلة هذه اللعبة الدموية القاتلة، وربما ترتد عليهم بما لا يرغبون ولا يطيقون.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 1 شباط 2016