حتى لحظة النجاح المذهل لمجاهدي »حزب الله« في أسر الجنود الإسرائيليين ال
ثلاثة داخل أرض لبنانية، ولو محتلة، وغير إسرائيلية، باعتراف تل أبيب ذاتها، كان »العالم« يكتفي بالفرجة على الفتية الفلسطينيين العزل إلا من حجارتهم ودمائهم وهم يتساقطون بالعشرات يوميا برصاص الجنود الإسرائيليين وصواريخ الحوامات والدبابات الإسرائيلية.
في وكالات الأنباء الدولية، وفي شبكات التلفزة الأميركية والبريطانية، كانت أخبار القتل اليومي للفتية الفلسطينيين، تحتل مكانا متأخرا، لتحتل المقدمات والصدارة المبارزة الكلامية بين المتباريين المتشابهين على رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، والتدابير »التقدمية« التي سيلجأ إليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مواجهة عمليات تبييض العملة، ثم الحدث الذي اعتبر الأعظم: الثورة الديموقراطية في يوغوسلافيا وإسقاط الدكتاتور ميلوسيفيتش.
كان الدم الفلسطيني الذي يتهاطل بغزارة ليؤكد حقه بأرضه، لا يحتل إلا مساحة متواضعة جدا لا تكفي لصورة الطفل محمد الدرة..
قبل أن تغيب شمس السبت انقلبت الآية، فإذا العالم كله لا يشغل باله إلا تجدد »العنف في الشرق الأوسط«، والا تهديد إيهود باراك لبنان وسوريا، إضافة إلى الفلسطينيين، بحرب ساحقة ماحقة، والا سلامة »المخطوفين« الثلاثة (وكأنهم، الجنود، كانوا سياحا يتنزهون في منتجع كامب ديفيد، قرب واشنطن، أو يخطبون في جمهور المتعة في هايد بارك في لندن، أو وهم خارجون من متحف اللوفر في باريس!)..
صار عنوان النشرات الإخبارية جميعا: الأزمات في الشرق الأوسط!
أما موضوعها فالحرب الجديدة التي فرضها الفلسطينيون ومعهم »حزب الله«، وبالتالي لبنان وسوريا، على إيهود باراك!
سقط من ذاكرة العالم أن إسرائيل تحتجز في سجنها الكبير كل شعب فلسطين، سواء من أدخلته في كيانها، وفرضت عليه »هويتها« قسرا، أو مَن ارتضى عيشة اللاجئ في المخيمات المحقِّرة لإنسانيته حتى لا يخرج من أرضه فلا يعود إليها أبدا، أو ذلك الذي أُخرج بالقوة، إلى الشتات وتُمنع عليه العودة ولو كرق أو أجير يعمل في بناء المستوطنات لغاصبي أرضه المستقدمين من أربع رياح الأرض.
ثلاثة جنود إسرائيليين، في مكمن محصّن، داخل أرض لبنانية محتلة، شكلوا ذريعة لإيهود باراك لكي يقرع طبول الحرب مهددا ثلاثة أقطار عربية، فإذا العالم كله يستنفر ويأتي لنجدة رئيس الحكومة الذي لم يعرف كيف يحافظ على وحدة حكومته، وتهرب من تنفيذ أي التزام سابق تجاه الفلسطينيين، برغم أن تلك الالتزامات البائسة لا تزيد عن كونها »اتفاق إذعان«، ثم أنه يخاف من الانتخابات المبكرة التي كانت ذات يوم الفخ الذي أودى بوزيره اللدود شيمون بيريز!
الحيلة ليست جديدة، فكلما فشل رئيس للحكومة الإسرائيلية في مواجهة مشاكله الداخلية، مع حلفائه وشركائه أو مع منافسيه وخصومه، هرب إلى الحرب، أو التلويح بالحرب ضد العرب، مستنفرا »الوحدة الوطنية«..
وكلما تبدى أن العرب قد ثقلت عليهم خيباتهم وفجعوا بتخلي السيد الأميركي عن وعده بأن يأتي لهم بالسلام الإسرائيلي إذا ما تنازلوا عن المزيد من أرضهم، فتوجهوا نحو التلاقي في »قمة« تحصر الأضرار وتحميهم من غضبة رعاياهم، أو هي ترجئ انفجار هذا الغضب، ارتفع التهديد الإسرائيلي بالحرب، وتعالى صوت »النصيحة« الأميركية بضرورة »الاعتدال« ومنع »المتطرفين« و»الأصوليين« و»الإرهابيين« من السيطرة والتحكّم بزمام الأمور… في الشارع!
لكأنها حرب عالمية لإنقاذ باراك من أزمته الداخلية التي كان لا بد أن تتفجر رصاصا وقنابل وصواريخ في وجه الفلسطينيين ومن يساندهم ويحاول حمايتهم ليس فقط من الانكسار، بل أساسا من الإبادة…
ثم لكأنه شيء من الحقد على لبنان ومقاومته الباسلة، لأنه يشكل »خروجا على القاعدة«: فهو قد استعاد أرضه المحتلة، وأجلى عنها إلا أقلها الجيش الذي لا يقهر من دون أن يدفع »الثمن المعلوم«، وهو اتفاق اذعان يذهب بسيادته واستقلاله اضافة الى مياهه، والى دوره المفترض في منطقته وبين أهله. وها هو النصر اللبناني يفعل فعله في الأرض الفلسطينية بل وتتبدى الرغبة الشعبية العارمة بالاقتداء به وتمثل تجربته الشجاعة والناجحة في أربع رياح الأرض العربية.
فالمطلب المعلن بغير إعلان هو الانسحاب الاسرائيلي من الأرض الفلسطينية، تلك التي حاولت اسرائيل وتحاول أن تلغيها بالتصنيفات المتباينة، فتقسمها مراحل وأجزاء وأقساما وأرقاما، وتجعل لفلسطينيتها مواعيد!
ومن الطبيعي أن تتحرك فلسطين المستترة أو المطموسة بقهر الاحتلال منذ 1948، وأن تسعى لكي تذكر العالم بحقيقتها الباهرة: إنها، أرضا وشعبا، بعض فلسطين وليست بعض اسرائيل. إن الهوية المفروضة قهرا لا تلغي الانتماء الأصيل والثابت والباقي على مر الأجيال.
ومن الطبيعي أن تتهاوى وتندثر تلك المحاولات المسمومة لضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية في مدينة كالناصرة، فإذا الكل ضحايا لا يملكون إلا هويتهم ووحدتهم طريقا إلى الوطن خارج المعتقل الجماعي في إسرائيل.
***
الحرب على القمة لم تعد اسرائيلية فقط،
إنها حرب »عالمية« طالما أن قيادتها أميركية.
فواشنطن، منذ كامب ديفيد الخطيئة الأولى تعتبر نفسها المرجع الشرعي الوحيد للعرب جميعا، واحدا واحدا، وللفلسطيني بشكل خاص،
وهي بالتأكيد ستحاول سرقة الأضواء والموضوع من القمة العربية، وتزوّر الأسباب لكي تستخلص ما تريد وما يناسب مصالحها من النتائج.
وهي قمة من أجل استعادة »عروبة« الحكام، قبل استعادة الأرض المحتلة، أي أرض عربية محتلة.
إنها قمة لحماية الحكام من هؤلاء الفتية الذين لا يملكون إلا دماءهم والمستعدين لبذلها رخيصة من أجل التحرر من المحتل ومن القاهر وممن يفرض عليهم الهزيمة والاستسلام، من قبل أن يولدوا، كائنا من كان.
إنها قمة فوق بحر من الدماء قد يتحول طوفانا!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان