أكثرنا غير مصدق لما تركه استخدام إسرائيل العنف ضد انتفاضة الفلسطينيين الأخيرة من صدى في أمريكا. تعودنا في سابق أيامنا على صدى يعكس وحدة إعلامية سياسية صاخبة للتنديد بالفلسطينيين وكل العرب. تعودنا على صدى يعبر عن رفض مطلق وغير متحضر وبعيد عن التفهم الإنساني لشكاوي الفلسطينيين. تعودنا على مدارس في الإعلام الأمريكي تغرس اليأس والكره لليهود في عقول العرب ليصبحوا أهدافا سهلة للاتهام بالعداء للسامية. تعودنا على ممارسات أمريكية وأمريكية إسرائيلية في المحافل الدولية تفوح منها بكثافة رائحة العنصرية.
هذه المرة اختلف الصدى لأن أمورا وظروفا تغيرت أو استجدت في العالم عموما وفي الغرب وفي أمريكا وفي العالم العربي وفي بعض الأوساط اليهودية وبخاصة في إسرائيل. بعض ما تغير أو استجد في أمريكا كان طفيفا أو متدرجا وبعضه اكتسى بكثير من العنف وأكثره نتج عن تراكم لم يحظ في بدايته بالاهتمام الكافي وانتهى في شكل تغيرات هيكلية في أكثر من بنية أيديولوجية وحضارية، وبخاصة في بنية العلاقات مع الخارج. لاحظناه وهو يتدرج ولم يحظ من جانبنا بالأهمية الواجبة إلا عندما كثرت المؤشرات على خطورة بعضه ثم عندما مست مواقع دولية حساسة. أختار مثلا بارزا وهو وصول دونالد ترامب إلى منصب رئيس الجمهورية الأمريكية متخطيا أسوار النظام السياسي الأمريكي وبين نواياه التي حملها معه أو حملته هي إلى البيت الأبيض نية خلخلة النظام الدولي القائم واللعب متهورا بأقدار البشرية عن طريق إلغاء اتفاقيات دولية كاتفاقية المناخ وفرض اتفاقيات وقرارات “من خارج الصندوق” على صراعات شديدة التعقيد ومنها الصراع مع إيران والصراع الفلسطيني الإسرائيلي والذي فرض عليه الاتفاقيات الإبراهيمية.
***
اخترنا من عهد الرئيس دونالد ترامب مثالين بارزين، الخروج من اتفاقية المناخ وفرض عقد اتفاقيات على مشارف القضية الفلسطينية، كلاهما كاشفان عن مدى انحدار منظومة السياسة الخارجية في هذا العهد. المثالان، كل على حدة، قد يحتاج تصحيحهما أو ترشيد آثارهما إلى هدر مصادر سياسية وفيرة. كان أولى بالسيد جو بايدن استثمار هذه المصادر، وبعضها ثمين، في جهود استعادة مكانة أمريكا، المكانة التي تلازم تدهورها مع مراحل فشل متتالٍ في التعامل مع أفغانستان ثم العراق. كنا شهودا على صعوبات جمة تواجهها قرارات الانسحاب من أفغانستان من ناحية والاحتفاظ بوجود عسكري رمزي في العراق تحت ضغط متقطع من ميلشيات الحشد من ناحية أخرى. هناك أمثلة أخرى لم نكتشف كثرتها، أنا وغيري، إلا بعد أن رأينا الصورة تكاد تكتمل، وبشكل من الأشكال بفضل هذا الصدى في أمريكا المختلف عما تعودنا عليه على مدى عقود عديدة.
***
رأينا بكثير من الألم وخيبة الأمل علامات انحدار الديموقراطية وانكشفت هيمنة وسطوة جماعات ضغط بعينها. رأينا المؤسسات وبعض الممارسات السياسية تتعرض لأعمال تخريب كدنا نثق أنها متعمدة بهدف إضعاف الديموقراطية في أمريكا. هدف عهدناه يتكرر في أوروبا. نسمع أصواتا كثيرة تنعي لنا ما حل بالحزب الجمهوري وما يفعله بنفسه بإيحاء من الرئيس السابق دونالد ترامب، ونعرف أكثر عن عمق ما خلفه هذا الرئيس، يهمنا الآن بين كل ما خلفه وهو كثير اقتناعنا بأن التمرد على ما فعل والاحتجاج على سياسات عهده أطلق ألسنة كانت محرومة من الاعتراض على الانحياز الأمريكي لإسرائيل في خلافها مع الشعب الفلسطيني، حرمتها هيمنة نواب وشيوخ تحركهم تنظيمات تابعة لقوى خارجية. رأيت كما يرى النائم رئيس الدولة القائد في عالم الديموقراطية يوجه رعاعا بعضهم مسلح بآلات حادة وبعضهم يرتدي زي الميليشيات، يوجههم في اتجاه المول ومبنى الكابيتول في عملية احتجاج عنيف على ما أطلق عليه الرئيس أسوأ تلاعب في نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
***
تابعنا، وبعضنا تابع بشغف، التغير المتدرج في التركيبة السكانية للمجتمع الأمريكي والتغير التابع له في ميزان القوة السياسية للأقليات في أمريكا. حدث في وقت من الأوقات أن تمتعت الأقلية اليهودية في أمريكا بنفوذ سياسي لم يتناسب وحجمها في المجتمع وهو الاستثناء الذي احتمى ليومنا بمجموعة قواعد مؤسسية أو قانونية أو عرفية تقف على رأسها القواعد المناهضة للعداء للسامية. يبدو لي، وما يزال في مرحلة الترجيح، أن الأقلية اليهودية في أمريكا تعاني هي الأخرى من داء أصاب السياسة والمجتمع في كل أمريكا، ألا وهو الاستقطاب. تعاني أيضا، وهو الأهم، الخوف من أن تفقد استثنائيتها في المجتمع الأمريكي وفي هيراركية جماعات الضغط. عندما أقرأ ما كتبه جيفري ساكس وكثيرون غيره من أقطاب اليهود في أعقاب حملة القصف المتوحشة على مدينة غزة وعندما يتأكد لي من متابعاتي للحراك الصهيوني في الجامعات أكاد أجزم أن تغييرا مهما يحدث في توجهات الأجيال الجديدة من أبناء وبنات الأقليات اليهودية. أسمع من أصدقاء قريبين من المؤسسة الحاكمة أن بعض الوزراء ومسئولين آخرين من بين من ينتمون لليهودية في دوائر الحكم الأمريكية بدأوا يتذمرون من ضغوط مسئولين إسرائيليين ونافذين في المنظمات الصهيونية، وصفها أحدهم بأنها كالسيف المسلط على رقابهم. البعض يلقي بمسئولية التذمر المتوسع على عاملين، الأول شخصية نتنياهو ودوائر الكره له شخصيا في واشنطن وبين كبار المفكرين والإعلاميين الأمريكيين، يهودا وغير يهود. الثاني، الإصرار على المبالغة في تصوير المحرقة والحكي عنها أمام أجيال جديدة. يتجاهل المبالغون والمرددون لسرديات مرعبة حقيقة أن المحارق باعتراف كبار الإعلاميين الصهيونيين أنفسهم صارت أمامنا في كل مكان في العالم ومحل عقوبات أمريكية وأوروبية. يتجاهلون أيضا أن إسرائيل بما تفعله ضد الفلسطينيين تكاد تنقل حرفيا عن فصول من ملفات النازية وملفات أخرى وجدت في خزائن الساتشي ومعسكرات العمل السوفييتية أو في وثائق الغرب الذي يتهم الصين بارتكاب جرائم تشين أي دولة عظمى ومتحضرة.
***
قيل لي بين ما قيل وهو كثير، قيل أن انحسار موجة القومية العربية وانفراط معظم مؤسساتها ساهما مع عناصر إقليمية ودولية أخرى في رفع الحرج عن المعترضين على انحياز أمريكا الباهظ التكلفة لممارسات إسرائيل الأقرب شبها بالنازية في الأراضي المحتلة. نذكر كيف أن الإعلام الأمريكي دأب خلال معظم مراحل تاريخنا الحديث على وصم القومية، والفكرة العربية عموما، بأسوأ ما في قاموس الكره والمبالغة. نذكر في الوقت نفسه التبجيل الذي حصلت عليه القومية اليهودية. قيل أن انحسار القومية العربية سوف يبتعد بالشعوب والحكومات العربية عن الصراع مع إسرائيل ليصبح مجرد نزاع على أرض بين فلسطينيين ويهود. وهكذا صار بالفعل كما كشفت تطورات حرب إسرائيل ضد كل الفلسطينيين خلال الأيام الماضية. كشفت عن شيء آخر.
***
نقرأ رغبة عامة لدى إعلاميين ورجال ونساء سياسة وعلماء علاقات دولية ودبلوماسيين متقاعدين، تحتوي الرغبة على دعوة عاجلة للبحث عن حل سياسي للنزاع. قرأت لمن يدعو الحكومة المصرية إلى الانتقال فور الانتهاء من مساعي الهدنة إلى الانخراط في مفاوضات للتسوية الشاملة. كلام كبير. كلمتان أسمعهما من أصدقائي العراقيين تعليقا على وعود وجهود لحل أو تسوية أزمة شديدة التعقيد. كدت في الأيام الأخيرة وعلى ضوء معرفتي بطموحات وصحة ونوايا الرئيس بايدن، وعلى ضوء خبرتي بالشئون العربية والانقسامات السائدة في داخل معظم الأقطار وبين بعضها والبعض الآخر، وعلى ضوء انكشاف الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي والهيمنة اليمينية على الحكم والمجتمع، وعلى ضوء ما يتسرب من أروقة السلطة الغائبة في رام الله ومن غرف الحكم وصالات التدريب في غزة، وعلى ضوء رد فعل الفلسطينيين وراء الحزام الأخضر على الحرب الإسرائيلية ضد غزة، وعلى ضوء تفاقم الاستيطان، وعلى ضوء احتمالات عودة ترامب رئيسا لأمريكا وفي صحبته العمالقة من تجار الأراضي، وعلى ضوء التحولات الهائلة التي تشهدها مسارح الصراع والوفاق في الشرق الأوسط، وعلى ضوء نهاية القطبية الأحادية والانتقال إلى التعددية القطبية في قيادة النظام الدولي، وعلى ضوء انحسار الغرب والانسحاب الأمريكي من مواقع المواجهة، على ضوء كل هذه الاعتبارات وغيرها مما لا يتسع له المساحة المقررة للمقال أعود فأقول إن ما يصلني من همهمات تؤكد ما ذهبت إليه من قبل وهو أن إسرائيل رتبت نفسها على نزاع متجدد المراحل، تفصل المرحلة عن الأخرى هدنة بعد أخرى لم تنقل الطرفين على مدى سبعين عاما من الصراع إلى سلام حقيقي، ولن تنقله.
***
إن التوصل إلى سلام دائم وحقيقي بين الطرفين يكاد يكون، أو هو بالفعل، في حكم المستحيل. وأقول صدقا وأمانة إن فرص التعايش السلمي بين الطرفين ضئيلة للغاية سواء تعايشا في دولة واحدة أو في دولتين تطل الواحدة على الأخرى، لن نراهن على شعب من الشعبين أن ينسى. اليهود لم ينسوا الوعد المقدس والفلسطينيون لم ولن ينسوا الأرض التي يطلون عليها كل صباح ويسكنها غزاة ظالمون. لا يسعني كل يوم إلا أن أزداد اقتناعا بأن من يبادر ويعرض السعي نحو حل دائم وسلام حقيقي يجب أن يكون على مستوى هذا المستحيل.
ينشر بالتزامن مع “الشروق“