لعل اللبنانيين هم أكثر العرب تحسساً بخطورة ما حدث في العراق تحت الاحتلال الأميركي عبر محاكمة صدام حسين التي كانت بداياتها هزلية ثم انتهت بخاتمة تراجيدية فيها إهانة للعقل والضمير والعواطف والإحساس بالعدالة.
لقد رمى الرئيس الأميركي جورج بوش العراق بنار الفتنة، عبر التحريض على تنفيذ الإعدام صبيحة عيد الأضحى، ثم ذهب إلى النوم، تاركاً لوكيله المحلي أن يتولى تنفيذ المهمة القذرة ، متجاوزاً احترام المناسبات الدينية ومشاعر الناس وبالذات منها احترامهم للموت… حتى موت الطغاة.
والواقع أن المحتل الأميركي ينفخ في جمر الفتنة منذ اليوم الأول لاحتلاله العراق، بل ربما قبل ذلك بكثير ومنذ انفجار إيران الشاه بالثورة الإسلامية.
ولأن نار الفتنة قابلة للتمدد في هشيم الأوضاع العربية المتردية، حيث هانت العروبة على أهلها وتهافتت قيمة الأوطان حين التهمتها الأنظمة وقدمت نفسها بديلاً منها، فإن الاحتلال الأميركي حاول وسيستمر يحاول توظيف هذه الفتنة لخدمة مشروع الهيمنة الكاملة على هذه المنطقة التي كانت عربية والتي تكاد الآن تفتقد هويتها في غياهب الشرق الأوسط الكبير ، وهو إسرائيلي بالمردود حتى لو كانت ولادته قد تمت في البيت الأبيض بواشنطن.
.. ولأن لبنان هش بتوازناته فإن الخوف قد تعاظم عند أهله كما عند جيرانه الأقربين على وحدة هذا الوطن الصغير الذي يختزن كماً هائلاً من الخلافات والتعارضات والتمايزات التي تتبدى سياسية ثم سرعان ما تتكشف عن ترسبات الحروب الأهلية السابقة التي ما تزال نارها تحت الرماد.
من هنا توالت النصائح، بداية باللغة العربية بلهجاتها المختلفة المصرية والسعودية والسودانية والجزائرية، التي سرعان ما تمت بلورتها على يد الأمين العام لجامعة الدول العربية على شكل مبادرة لم تنفع في الحل، مع أن الأطراف جميعاً جاملوا عمرو موسى أو نافقوه فأعلنوا موافقتهم عليها… بل إن بعضهم ادعى ابتداعها.
ها هم اللبنانيون الآن يتلقون النصيحة مجدداً، وبلهجة حازمة تنضح بالمخاطر، من ضيفهم رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان الذي جاء لتحذيرهم، قبل الاطمئنان على كتيبة بلاده التي جاءت ضمن النجدة الدولية الرقم .1701
لم يجامل أردوغان، ولم يحاول تمويه مهمته بل قالها صريحة:
تناولت كيفية حل أزمة لبنان دون الخروج عن إطارها السياسي، وماذا تستطيع تركيا أن تقدم في هذا المجال. ففي لبنان طابع اجتماعي فريد، وقد أكدنا ضرورة الحفاظ على هذا الطابع (…) إن الخلافات المذهبية ستنعكس على المنطقة ككل، وأنه لا بد من تحرك جميع الأطراف في لبنان وجميع الدول في المنطقة لحل هذه المشكلة .
الكل يخاف من لبنان، العرب والعجم والترك… بل إن الخوف يمتد إلى أنحاء أبعد بكثير إذا ما استذكرنا تصريحات قادة دول كبرى في طليعتها روسيا والعديد من الدول الإسلامية، وكذلك غير دولة أوروبية.
والخوف من لبنان غالب على الخوف عليه، فالفتنة إذا ما ذرت قرنها، لا سمح الله، فإن ألسنة نارها ستمتد إلى مختلف أنحاء المنطقة، فتفجّر الخلافات الكامنة أو المعلق حلها، العرقية منها والدينية والطائفية والمذهبية…
وطالما أن الاحتلال الأميركي يغذي نار الفتنة في العراق ويستغل شهوة السلطة عند بعض المناضلين القدامى الذين توزعت أعمارهم بين السجون والمنافي (هذا إذا أسقطنا أولئك الذين أعدموا رمياً بالرصاص أو رمياً في قناة الجيش، أو في حوادث مؤسفة ، أو قتلاً بيد صدام حسين شخصياً)..
… وطالما أن ثمة من يقدم سلطته على مصلحة بلاده، أو يقدم طائفته على وطنه، تحت رعاية الهيمنة الأميركية ولحسابها،
… وطالما أن خريطة المنطقة التي شهدت، قبل مئة عام إلا قليلاً، عملية فرز وضم فاستولدت دول، على عجل، وتمّ تكبير الصغير وتصغير الكبير، لتظل أوضاع الدول المستولدة ضعيفة في داخلها ومستضعفة أمام الأجنبي، ولتظل الطائفية والمذهبية فيها أقوى نفوذاً من الوطنية المستحدثة،
لهذا كله فمن حق التركي ومثله الإيراني ولو لم يعلنها، أن يخاف من هذا التفتيت الذي تتعرض له الأقطار العربية، تحت ضغط الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ومن ثم تحت ضغط سياسة الهيمنة الأميركية التي كلما تصاغرت الدول أو تمّ تقسيمها إلى دويلات زاد نفوذها فيها بازدياد الحاجة إلى حمايتها.
ونتمنى أن يفهم اللبنانيون النصيحة التي أطلقت، أمس، بالتركية، بعدما تجاهلوا أو ادعوا الصمم حتى لا يسمعوا النصائح العربية وكلها بمضمون واحد: تقتلكم الفتنة ولا يحفظكم إلا وحدتكم!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان