أما وأننا لا نملك الحق في اختيار نوابنا، وربما رؤساء البلديات والمخاتير، فضلاً عن الوزراء والرؤساء (ناهيك بالملوك والأمراء والشيوخ)، فمن باب أولى ألا يكون لنا الحق في الاعتراض على »اختيار« الرؤساء نوابهم في بلاد الآخرين، فكيف والأمر يتصل بأمبراطور الكون الأميركي الذي »يختار« للعديد من دول العالم والعرب من بينها رؤساءهم والملوك والأمراء وأصحاب السمو أولياء العهود؟!
ومع احترامنا الشديد للديموقراطية التي نحاول التعرف إليها فلا نستطيع، فقد اكتشفنا أن لها حتى في بلاد هائلة التقدم مثل الولايات المتحدة الأميركية علاقة عضوية »بالأعاجيب«، إذ ان السناتور جوزف ليبرمان الذي اختاره آل غور نائبا له لو فاز بالرئاسة، لم يجد ما يستقبل هذا الاختيار إلا القول: »إن الأعاجيب لا تزال تحدث«!
لا يناقش أحد حق »الناخب« الأميركي في الاقتراع ليهودي أرثوذكسي، يمارس الشعائر الدينية بانتظام، ولا يعمل أو يقود سيارته يوم السبت، حتى وإن اعتبر اليهود الأميركيون أن »الحدث تاريخي«، أو أعطى الإسرائيليون الأميركيين شهادة بالنضج »لتمكينهم هذا اليهودي الواعي والمتدين من ترشيح نفسه لشغل هذا المنصب الرفيع..«.
في السياسة الدولية، وخارج إطار الديموقراطية الأميركية وحقوق اليهود في المواقع العليا، لا بد من مناقشة هذا الترشيح وتأثيره على »العرب« وقضاياهم، خصوصا أن للسيناتور ليبرمان مواقف معلنة وقاطعة في وضوحها: فهو بين أشد المتحمسين لإسرائيل عموماً ولنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس خصوصاً، تسليماً بالمنطق الإسرائيلي بأن القدس هي »العاصمة الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل«.
ثم ان السيناتور ليبرمان كان بين قلة من الديموقراطيين في الكونغرس صوّتوا على قرار تقدم به الحزب الجمهوري (في العام 1990) لشن الحرب ضد العراق،
وهو مؤيد لزيادة الإنفاق العسكري، وكان مع إرسال قوات أميركية إلى البوسنة، ومع توسيع الحلف الأطلسي ومع بناء غواصات نووية، برغم أن »الحرب الباردة« قد انتهت من زمان الخ..
وليست المشكلة في أن يختار آل غور أو غيره، ولأول مرة في التاريخ الأميركي، يهودياً لمنصب نائب الرئيس، فاليهود الأميركيون مواطنون أميركيون ولهم حقوقهم »كمواطنين«، فكيف وهم »ممتازون« و»مميزون« وأصحاب نفوذ استثنائي داخل الإدارة وخارجها، وفي المجتمع المدني بكل تشكيلاته من الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث إلى المنتديات الفكرية، كما أنهم وكما يعرف العالم شديدو النفوذ وعظيمو التأثير في سوق المال والأعمال والشركات والتروستات الاحتكارية الكبرى إضافة إلى الإعلام بأجهزته المؤثرة المختلفة حيث تكاد سيطرتهم تكون كاملة شاملة.
المشكلة ان هذا الاختيار »الديموقراطي« للأميركيين يأتي بينما »العرب« بمجموعهم يعانون من سوء معاملة ومن اضطهاد بل من امتهان لكرامتهم لا يقتصر على من كانوا يصنَّفون في عداد »أعداء الأمبريالية الأميركية« أو »داعمي الإرهاب« بل هو يتناول »المعتدلين« و»أصدقاء أميركا« التقليديين كما يشمل خصومها العقائديين أو السياسيين.
فمصر، بشخص رئيسها، بل وبتاريخها وتراثها الحضاري وكرامة شعبها، تتعرض لحملة تتجاوز الظلم إلى التحقير والرغبة في الإذلال المتعمد، ويتم التشهير بها شعباً وحكومة ورئيساً وتوجه إهانات علنية إلى قضائها ومؤسساتها كافة، وبوتيرة شبه يومية،
وأقطار الخليج كافة، بالمملكة السعودية فيها، تفرض عليها منذ عشر سنوات أتاوة »التحرير« فتسلب منها موارد نفطها قبل أن تتسلمها، إذ تستوفي واشنطن بعضها سداداً »لنفقات التحرير« وبعضها الآخر ثمناً لسلاح لن يستخدم بذريعة حمايتها من اجتياح آخر لا يمكن أن يقع..
ولبنان الذي يكاد يصبح مسخاً لشدة تقليده »نمط الحياة الأميركية« ولانبهار ساسته و»نخبته« و»مجتمعه المدني« بالنموذج الأميركي، يُفرض عليه الحصار وتُمنع عنه المساعدات، عسكرية كانت أم اقتصادية، ويكاد يعاقب على إنجاز التحرير بالمقاومة عن طريق سد الطريق بينه وبين مساعدات »الدول المانحة«..
وأما سوريا فيستمر تعليق اسمها على قائمة الدول التي تدعم الإرهاب أو تأوي الارهابيين، وتمنع عنها القروض والمساعدات والهبات، ويفرض عليها شيء من الحصار الاقتصادي والسياسي، ويُدعى رئيسها الراحل حافظ الأسد إلى جنيف ليقدم إليه الرئيس الأميركي بيل كلينتون عرضاً يعرف تماماً أنه سيرفضه فيتهمه من ثم بأنه »متصلب« و»لا يريد السلام«!
وأما السلطة الفلسطينية، سلطة ياسر عرفات الذي كاد يصبح واحداً من أهل البيت في البيت الأبيض، فتوجه إليها وإلى رئيسها الطيّع والمهددة حياته بسبب تنازلاته، تهمة التشدد والتطرف والتمسك بشيء من القدس، وينذر بعقاب صارم إن هو تجرأ فأعلن قيام »الدولة الفلسطينية«، ويوقَّع عليه القصاص لأنه لم يمنح إيهود باراك الفرصة ليؤكد، في السياسة هذه المرة، أنه »نابليون إسرائيل« وقاهر السوريين ومحرر القدس (ومعظم فلسطين) من الفلسطينيين!
هذا إذا ما تجاهلنا الحصار الذي فُرض على ليبيا والسودان (والصومال؟؟) والعقوبات التي استتبعها!
… وهذا إذا ما ادعينا الجهل بمأساة العراق المفتوحة، حيث يخسر شعبه معنى الحياة وليس أسبابها فحسب، وتحوله العقوبات سياسياً إلى جهات منفصلة ومتواجهة، وتحول شعبه إلى مجاميع وشراذم من الجائعين من المرضى والمحتاجين والمتسولين، يولد الأطفال ليموتوا ويميتوا معهم ذويهم البائسين، وتقطع تركيا عنه (وعن سوريا) شريان الحياة (مياه دجلة والفرات) بغير أن يكون لهما حق الاعتراض، ويقتطع من لحمه وقوت أبنائه ما يعوّض على ضحايا غزوة صدام حسين الكويت، وكأن العشرين مليون عراقي ليسوا بين الضحايا..
* * *
باختصار ليست المشكلة في الديموقراطية الأميركية، أو في النفوذ اليهودي غير المحدود الذي يتحكم في الانتخابات، كل أنواع الانتخابات، بدءا بالبلديات مروراً بحكام الولايات وصولاً الى أعضاء الكونغرس وانتهاء بالرئيس ونائبه،
وليس لنا أو لغيرنا من ملامة أو اعتراض على ديموقراطية الآخرين، كائنة ما كانت نتائجها،
لكن من حقنا أن نرى في اختيار ليبرمان وجهاً آخر يعنينا ويتصل بمكانة العرب ونفوذهم ومدى تأثيرهم في سياسات »النظام العالمي الجديد« لصاحبه الولايات المتحدة الأميركية.
وما يعنينا في قرار الديموقراطية الأميركية ان العرب، المئتين وخمسين مليوناً من الناطقين بلغة الضاد، خارج هذا الحساب، كما خارج أي حساب!
وإذا كانت كفاءة اليهود وحسن توظيفهم لطاقاتهم وإمكاناتهم وتأثيرهم الهائل، قد مكنتهم بعد السيطرة المطلقة على »الإدارة الأميركية«، أي على الخارجية ومجلس الأمن القومي والبنتاغون والمخابرات المركزية وبعد التحكم بسوق المال والاعلام من دفع واحد منهم الى موقع الرئاسة، فإن الوجه الآخر لهذا الفوز العظيم يعني ان ليس للعرب وجود فكيف بالتأثير على القرار الأميركي.
لقد أسقط العرب أنفسهم من حسابات السياسات الدولية، في الشرق كما في الغرب، في أوروبا كما في الصين واليابان الخ..
كانت الذريعة: اننا نشتري بذلك موقعاً للنفوذ والتأثير على القرار الأميركي، ومن هناك يصل نفوذنا إلى كل مكان!
لقد ثبت الآن انهم »غير موجودين« ولا أثر لهم أو تأثير، لا بدافع الصداقة ومراعاة المصالح ولا بدافع الخوف على المصالح وتهيّب القوة.
فكل مكسب من هذا النوع تحققه إسرائيل أو اليهود المناصرون لها في العالم هو شهادة جديدة على انتفاء قيمة العرب، وعلى أن كمّهم العظيم لا وزن له ولا قيمة…
ولقد نجد الآن من يهرب ليردد مع الشاعر القديم:
مَن يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميّت إيلام«
إلا أن القضية أعقد من أن يحلها التشفي شعراً أو نثراً!
والقضية أننا بلا سياسة، بلا خطة، بلا تأثير… فمن أين تجيئنا القيمة، ولماذا يتهيبنا الآخرون؟!
والخاتمة كلمة لرئيس بلدية مدينة بريدجبوت، اللبناني الأصل جوزف غانم… فهو قد علق على اختيار ليبرمان بالإشادة »بدرجة الرشد التي بلغها المجتمع الأميركي عبر هذا التقدير الكبير للجالية اليهودية فيها«؟
ومن لا قيمة له في بلاده من أين تأتيه القيمة خارجها؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان