المسافة »الرسمية« من بيروت إلى الكونغو كينشاسا طويلة جداً، وتحتاج إلى شهر ونصف شهر، أو يزيد، لكي يقطعها موفد خاص في موسم »الموت الأسود«،
العزاء مرجأ، في انتظار الإقرار بالهوية الوطنية لهؤلاء المواطنين المنسيين الذين حصدتهم عاصفة الصراع على السلطة في كينشاسا التي أودت بالأب وجاءت بالابن رئيساً بقوة الأمر الواقع المدعوم بمدافع العسكر ودباباتهم.
العزاء مرجأ، مع أن الحال لم يختلف عليهم كثيرا، فهنا كانوا مهددين بالموت الإسرائيلي الأزرق، أو بموت أبيض تستولده البطالة والعوز والفقر وذل السؤال.
العزاء مرجأ في انتظار أن يلملم المقتولون غيلةً أجزاءهم المقطَّعة، وأن يعثروا على أخشاب يصطنعون منها نعوشاً، ليصلوا إلى وطنهم موفوري الكرامة فيستحقوا مأتماً وطنياً مهيباً، يتبارى فيه الخطباء من الرؤساء أو ممثليهم، ومن المسؤولين أو كتبتهم، ومن المراجع الدينية أو مَن ينوب عنهم، أو من قادة الأحزاب أو الناطقين باسمهم.
إنهم مغتربون، وهم مرفهون وأثرياء، حتى ولو كانوا موتى.. فليشتروا أكفانهم وليستأجروا طائرة خاصة تعيدهم أشلاء إلى وطنهم الأم الذي ضاق بهم الرزق فيه فهجّوا منه إلى حيث يصطنعون من التيه في قلب الغابات مستقبلاً أفضل لأبنائهم.
بؤساء أبناء »الشريط الحدودي« هؤلاء الذين لا يعترف بهم أحد من »الكبار« سواء أكانوا مقيمين أم مغتربين، والذين فُرض عليهم باستمرار أن »يشتروا« مواطنيتهم مرة ومرتين وثلاثاً، وأن يدفعوا ثمنها عملة صعبة وماسات نادرة وأنياب أفيال من العاج طويلة جداً لتطال مقام من تُهدى إليه، فضلاً عن الأبنوس اللازم لأبواب القصور.
خمسون يوماً، والموت الأسود يجول في القرى الخارجة من أسر الموت الأزرق؛ عيناتا وبنت جبيل وطيردبا وحاريص، حاملاً معه الوجع وقلق السؤال والخوف من اغتيال خيط الأمل الواهي، والدولة تتصل بالخلوي ثم لا تقول شيئاً، إذ لم يصلها من سفيرها هناك ما يحيي الرجاء أو يسمح بالندب على الضحايا.
في بلاد الناس، كانت الدولة قد استنفرت أجهزتها جميعاً، وصداقاتها جميعاً، وطار كبار المسؤولين فيها إلى مركز المأساة، باذلين نفوذهم والمصالح المشتركة، من أجل افتداء مواطنيها المحتجزين، أو أقله السماح بالإفراج عن جثثهم مقتولين.
مرة، تصرفت الدولة بما يليق بكرامتها، فطار وزير من حكومتها مرتين إلى ليبيا، خارقا الحصار عليها، من أجل مواطنة هي السيدة ماري معربس، وكان ذلك موضع تقدير اللبنانيين، برغم أن تلك المواطنة الملتبسة الجنسية فضلت أن تلتحق بأصدقائها في باريس على العودة إلى الأهل القلقين عليها في بيروت،
مع ذلك قدّر اللبنانيون لدولتهم الاهتمام وإن لم يرتاحوا لتصرف الرهينة المحرَّرة.
ما علينا: نفهم أن تكون الدولة قد عجزت، لأسباب لا تحتاج إلى كثير شرح، عن إنقاذ هذه العصبة من مواطنيها الذين اغتالتهم موجة العنف التي رافقت اغتيال الرئيس الكونغولي والانقلاب على مشروع الانقلاب أو ما يشبه ذلك مما لم تُعرف أسراره الكاملة بعد،
فهل أقل من أن نكرم الضحايا أمواتاً، فنستعيدهم ولو في نعوش، ونقيم لهم مأتما وطنيا، ونهتم بعائلاتهم المتروكة للريح، وبحقوقهم المرشحة لأن تُنهب مرة أخرى.
دعوا الموتى يدفنوا أمواتهم.
لا فرق يُذكر بين موت أسود في بلاد الغربة أو موت أزرق برصاص الاحتلال الإسرائيلي أو الهرب إلى أقصى الأرض تجنباً للموت الأبيض في قلب الفقر وذل الحاجة في الوطن وإلى الوطن..
الفقر في الوطن غربة، فكيف بالغربة في الوطن الفقيرة دولته، وبين أسباب فقرها التمييز بين مواطنيها؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان