لا تخفي الإدارة الأميركية الجديدة اهتمامها الاستثنائي بالانتخابات النيابية في لبنان، وحرصها على «رص الصفوف» داخل جبهة من يرون في أنفسهم «أصدقاء» و«حلفاء» لواشنطن، بغض النظر عن الإدارة فيها، وهل هي «جمهورية» كالتي عرفوها وعرفتهم فوالوها وأكرمتهم وساندتهم، بل إنها اندفعت فتقدمتهم أحياناً على طريق العداء العلني لسوريا وإيران و«حزب الله» وكل من كان على صلة بأي من أطراف «معسكر الشر» هؤلاء.
وبديهي أن تحرص الإدارة الجديدة على بعض صداقات الإدارة السابقة بوصفها «استثماراً سياسياً مفيداً»، بغض النظر عن تقييمها النهائي لمدى صدقيته أو لحجم شعبيته في لبنان. فالمؤكد أن هؤلاء «الأصدقاء» قد أثبتوا خلال السنوات الأربع الماضية ولاءهم المطلق، وأسهموا إسهاماً بارزاً في مواكبة «ثورة الأرز» بشعاراتها وفولكلورها وأزيائها التي تبدّت وكأنها قد استوردت جاهزة من أوكرانيا وثورتها البرتقالية الشهيرة!
فأهل السياسة في العالم الثالث عموماً ليسوا أكثر من أدوات، تستثمر في لحظات معينة ثم يتم إخفاؤها أو فرض التقاعد عليها متى تغيّرت اتجاهات الريح، إلا إذا هم بادروا فبدّلوا مواقعهم سلفاً ليكونوا جاهزين في المرحلة «الجديدة» التي بين شروطها إدانة المرحلة السابقة ورجم رموزها وأهدافها!
ما علينا.. لنعد إلى لبنان وتحولات أهل السياسة فيه:
ما إن تنتهي زيارة مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية حتى يجيء مسؤول آخر، فيجول على قيادات 14 آذار، التي لا هي حركة ولا هي حزب ولا هي تجمع بين متناغمين ولا جبهة سياسية بالمعنى المألوف… لهذا يجد المسؤول الأميركي أن أمامه برنامج زيارات حافلا لبضعة «قياديين» لا يتحدثون لغة واحدة، وقد تتضارب مصالحهم إلى حد المواجهة في بعض الدوائر الانتخابية، برغم عمليات النقل أو ترحيل المرشحين من دائرة إلى أخرى… ولو بالإسقاط الجوي، كما حدث في طرابلس.
ولأن الموفد الأميركي، على عظيم خبراته بالأزمات، لا يتقن فنون اللعبة السياسية اللبنانية، لا سيما بين «الحلفاء» فإنه يجد نفسه مضطراً لأن «يغطس» شخصياً في التفاصيل، ولأن يحفظ عن ظهر قلب الفروق بين القوانين الانتخابية الطبيعية و«قانون الستين» الفريد في بابه، وأن يتقن التمييز بين الأرمن الطاشناق والأرمن الهانشاق والرامغافار، وبين طوائف المسيحيين عموماً الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك ثم الأقليات وممّن يتكوّنون وأين موقع البروتستانت منهم، فضلاً عن الكلدان والسريان والماردينيين والأقباط الذين صاروا لبنانيين من الدرجة الأولى ولهم حق الانتخاب وحق ترشيح من يمثلهم في برلمان الطوائف المؤتلفة إلى حد الحرب الأهلية!
وإذا كانت وزيرة الخارجية الأميركية السيدة هيلاري كلينتون قد اكتفت، خلال زيارتها الخاطفة إلى بيروت، ببعض الكلام الدبلوماسي الذي لم يتجاوز المواقف المبدئية، فإن نزولها إلى ساحة الشهداء لوضع إكليل من الورد على ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان يعني شيئاً من التضامن أو التعاطف مع من يتخذون من صورته برنامجاً سياسياً لهم، ويحاولون الادعاء أنهم وحدهم من استنكر جريمة اغتياله، وهي الجريمة التي كادت لهولها تذهب بالبلاد جميعاً.
وفي حقيقة الأمر فإن هؤلاء الموفدين إنما يأتون ليؤكدوا «للحلفاء» في لبنان ليس فقط حرصهم على وحدة موقفهم وتضامنهم في وجه خصومهم، بل أكثر من ذلك: إن كل شيء في الإدارة الأميركية الجديدة قابل للتغيير أو التعديل، بالحذف أو بالإضافة، إلا موقفها من «ثورة الأرز»، ومن أركانها الذين لا يجمعهم برنامج سياسي موحد وجدي، ولا تاريخ من النضال المشترك في سبيل أهداف واحدة… خصوصاً أنهم كانوا ـ إلى ما قبل فترة وجيزة ـ خصوماً في ما بينهم لا يجتمعون إلا إذا أمر صاحب الأمر (الذي لم يكن أميركياً بطبيعة الحال). ثم إن العديد من أركان «ثورة الأرز» وأبطالها المنادين بإدانة «حقبة الوصاية السورية» كانوا في طليعة المستفيدين ـ جاهاً وسلطة ومالاً ومنافع لا حصر لها ـ من عهد «الوصاية» ذاك، ومن أركان السلطة على امتداد ربع قرن أو يزيد.
المهم أن آخر الموفدين، وهو من أركان وزارة الخارجية الأميركية، السيد ديفيد هيل، قد أنهى جولته بهدوء… تاركاً للصور أن تتكلم، وكذلك للرحلات الطارئة التي قام بها بعض أركان 14 آذار، فور انصرافه من بيروت.
على أن أمراً جللاً لم يكن في صلب مهمة السيد هيل ولا هو كان مفوضاً بشرحه أو تأويله: فالرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، والذي استقبله العرب ـ كما شعوب الكون والعالم الثالث خاصة ـ بالترحاب والاستبشار بأن عهده سيكون نقيض عهد سلفه التكساسي جورج و. بوش، قرّر أن يجيء إلى القاهرة ليوجه منها نداءً حاراً إلى العرب خاصة والمسلمين عامة، يطمئنهم فيه إلى صداقة بلاده بعد تعديل سياساتها التي كانت دائماً معادية للشعوب.
وهذا أمر كان يمكن أن يكون جيداً لولا بعض الهنات الهينات، وأولاها وأخطرها اختيار موعد إذاعة هذه الرسالة.
الموعد: يوم الرابع من حزيران… أي عشية الخامس من حزيران، الذي يحفظه الوجدان العربي بوصفه موعد الحرب الإسرائيلية على العرب، التي بدّلت أقدارهم جميعاً، وأنزلتهم من مرتبتهم القيادية إلى من يتوسل تطبيق قرار بائس لمجلس الأمن لا هو يعيد أرضاً ولا ينهي احتلالاً.
لم يكن اختيار الموعد موفقاً، خصوصاً أن الحرب الإسرائيلية على العرب جميعاً، وأولهم مصر، ما تزال مفتوحة، بشهادة لبنان (2006) وغزة التي لم توقف إسرائيل دكها ومحاولة إزالتها عن وجه الأرض إلا «لتبيع» وقف النار (مع استمرار الحصار القاتل) للرئيس الأميركي وعهده الجديد.
ومن المصادفات السيئة أن تسبق زيارة الرئيس أوباما والنداء التاريخي لمصالحة المسلمين (والعرب) الجولة التي بدأها قداسة البابا بندكت السادس عشر بالأردن والتي ستشمل بعض الأراضي الفلسطينية فضلاً عن «دولة اليهود» في إسرائيل (كما صارت بنظر واشنطن جورج بوش والقيادات الإسرائيلية)، والتي تتزامن مع الذكرى الحادية والستين للحرب الإسرائيلية (المدعومة دولياً) على شعب فلسطين ومسح كيانه السياسي لحساب الدولة الوافدة الجديدة.
ليست بادرة تجاه العرب، عموماً، أن يكون البابا «ضيف» القدس المحتلة في ذكرى تزوير هويتها وطرد سكانها منها، وفيهم المسيحيون والمسلمون على حد سواء.
وليس مؤكداً أن اختيار هذين الموعدين قد راعى العلاقة مع «العرب»، في مصر وسائر المشرق، أو في فلسطين خاصة، والوعد بتطويرها لتكون «صداقة خالصة» بين الشعوب تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
كذلك فلن تكون هاتان الزيارتان مما سيفيد في ارتفاع جماعة 14 آذار، في «حرب» الانتخابات النيابية على قاعدة قانون الستين التي تلغي كل القواعد ذات الصلة بالديموقراطية.. وحقوق الإنسان، ومنها كرامته الإنسانية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان