لم يظهر أي أثر للانفعال أو الاستغراب أو حتى الدهشة على وجه رئيس الاتحاد السويسري، وهو يستمع من بعض كبار المسؤولين أو بعض القيّمين على المواقع الأثرية، استذكاراً لفواجع الحروب الأهلية المتعددة العناوين والأعلام والشعارات المموهة للأسباب الفعلية التي عاشها اللبنانيون في ظلال الموت أو في قلبه، على امتداد ثلاث وثلاثين سنة، وما زالوا يعيشون فيها، أو على حافتها، حتى اليوم.
كان ضيفنا الذي يرئس اتحاد الوطن السويسري الصغير ثلاثي القوميات واللغات (الفرنسية والألمانية والإيطالية، فضلاً عن لهجات محلية أخرى) يكتفي بهزات من رأسه، وهو يتابع سرد محدثيه خلال جولته السياسية ـ السياحية في بعض أنحاء لبنان وشؤونه وشجونه.. ولعله قد أظهر أحياناً بعض التأثر وهو يستمع إلى الروايات المتنوعة والمختلفة باختلاف الرواة، عن المجازر الجماعية، وعن تدمير أحياء بكاملها في هذه المدينة أو تلك، وعن جرف القرى، وعن »التبادل« السكاني القسري الذي جرى في العديد من المناطق، بما يرافق مثل هذا السرد من مؤثرات صوتية ومن انفعالات قد تجاور البكاء.
لم يقل الضيف الذي غادرنا، أمس، رأيه في ما سمع.. لكنه اكتفى بأن أعاد على مسامع مضيفيه فصولاً من سيرة سويسرا مع الحرب الأهلية التي امتدت فيها لمئة وخمسين سنة فشملت أنحاءها جميعاً، بالمدن والقرى والدساكر، بالجبال والتلال والأنهار: لقد اقتتلنا على كل شجرة، على كل قطرة ماء. نسينا روابط القربى والصداقات. أهملنا الروابط الحميمة، بل لعلنا قد وجهنا إليها رصاصنا..
أما كيف انتهت حروبهم؟ فالجواب جاهز: لم يكن أمامنا إلا خيار وحيد تفرضه قوانين الطبيعة والحياة… أن نعيش معاً، وهكذا كان.. ابتدعنا صيغة تناسب اتحادنا برغم الانقسام القومي واللغوي، وبرغم نزعات الثأر، وبرغم التدخلات الدولية، فكان الاتحاد السويسري الذي تعرفون!
[ [ [
أول ما تلتهمه الحروب الأهلية الأسباب الأصلية لتفجرها، والتي لا يمكن أن تبرر نهاياتها بالاتفاقات ـ الصفقات التي تعقد بين المستفيدين منها، وعلى رؤوس ضحاياها..
… وها أن معظم بقاع الوطن العربي، بدءاً بلبنان، وانتهاءً به، تعيش مسلسلاً من الحروب الأهلية المفتوحة، وإن على تقطع، ليس لأن أهلها أعداء، بل لأن قياداتها السياسية (ويمكن إضافة الهيئات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية) تغطي عجزها عن إدارة البلاد وحماية مؤسسات الحكم بتفجير الخلافات بين أبناء شعبها، مستغلة التنوع الطائفي أو المذهبي أو العرقي، مع وعيها بأن المستفيد الحقيقي هو »الخارج«… والذي غالباً ما يكون بعض أهل السلطة أو الطامعون بها على ارتباط به، أو تطمع في أن »يحميها« ويغطيها في صراعها على السلطة من »موقع الحليف«!
هل هي مصادفة أن »العرب« قد غرقوا أو أنهم أغرقوا أنفسهم وبلدانهم في مسلسل لا ينتهي من الحروب الأهلية التي تهدد وحدة العديد من »دولهم« ومجتمعاتهم التي كانت آمنة فاضطربت إلى حد الاقتتال؟
الذاكرة متعبة، خصوصاً حين تلعب دور الشاهد على الذات!
ففي مثل هذا اليوم، السادس من تشرين الأول ـ أكتوبر ـ من العام ،1973 كان »العرب« في مختلف أقطارهم يعيشون لحظة فرح نادرة في تاريخهم، ينفخون صدورهم بالزهو ويتبادلون التهاني بإقدام القيادة في كل من مصر وسوريا على اتخاذ القرار المجيد بالحرب على الاحتلال الإسرائيلي لتحرير أجزاء مهمة من أراضيهما..
كان القرار المجيد كافياً لكي يوحد »العرب« في مختلف أقطارهم، على اختلاف أنظمتهم: أنجز كل من الجيشين المصري والسوري الضربة الأولى. عَبَر أبطال مصر »الحاجز المائي الخطير« ممثلاً بقناة السويس، فدمروا »خط بارليف« الذي كان جيش الاحتلال يعتبره رادعاً مانعاً لأي مغامرة، وقفز أبطال سوريا في اتجاه بحيرة طبريا، وهبطوا بالمظلات فوق المرصد الإسرائيلي في جبل الشيخ فحرروه…
صارت الأمة في الشارع، موحدة، متماسكة، مستعدة للبذل والعطاء بلا حدود: قدمت ليبيا طيرانها، وجاءت الجزائر بشخص رئيسها إلى القاهرة ومن خلفه الدبابات والمدفعية، واتخذ الملك فيصل بن عبد العزيز قراره التاريخي المجيد بوقف تصدير النفط، وجاءت الدبابات العراقية على جنازيرها لتشارك مباشرة في المعركة التي وصفت بأنها »مذبحة الدبابات« إذ استهلكت المواجهة أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة دبابة!
ملأت التظاهرات الشوارع تحية للمقاتلين. زغردت أرامل شهداء الحروب السابقة. حاول آلاف الشبان، فلسطينيين بالذات ولبنانيين ومتطوعين جاءوا من المغرب والجزائر وتونس واليمن، إضافة إلى وحدات رمزية من جيوش هذه الأقطار، أن يشاركوا في هذه »الحرب التحريرية« ضد عدوهم الواحد…
… ثم اغتيل النصر بصفقة الصلح المنفرد الذي هندسه هنري كيسنجر وأغرى به الرئاسة المصرية آنذاك، فانتهت الحرب بمأساة قومية مريعة، سرعان ما تحولت إلى ولاَّدة للحروب الأهلية العربية.
[ [ [
من يتوقف أمام دروس التاريخ وخلاصتها ناطقة: تُحارب العدو أو ينقلب شعورك بالعجز إلى حرب ضد الذات!
لنقصر حديثنا على لبنان، متجاوزين ما يجري لفلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي وشعبها المجاهد الذي يكاد الانقسام يضيع قضيته المقدسة وحقوقه في أرضه وفي دولة له فوقها، ومتجاوزين ما يجري للعراق تحت الاحتلال الأميركي الذي دمر وحدة شعبه وكيانه السياسي وكاد يجعله مقبرة جماعية..
أين لبنان الواحد، الموحد، ودولته المجسدة لإرادة شعبه وطموحه إلى غد يليق بكرامة الإنسان فيه؟!
إن لبنان، الذي جال رئيس الاتحاد السويسري في بعض أنحائه، يكاد أن يكون اليوم جهات منفصلاً بعضها عن البعض الآخر، مدنه محتربة، طوائفه محتربة، مذاهبه محتربة، والجيش ـ المؤسسة الموحدة بعد، برغم كل الأعباء الثقيلة التي فرضت عليها أن يقوم بها ـ تكاد تحمل ما تبقى من »الدولة« على ظهرها، في العادة يكون للدولة جيشها، أما في لبنان فإن الجيش هو من يستبقي صورة الدولة… وقد تجاوزت هذه المؤسسة الوطنية مخاطر الانقسام، بعدما حوّلتها سياسات الطبقة السياسية الحاكمة إلى »قوة فصل« بين الطوائف في شوارعها وأحيائها »المعادي« بعضها للبعض الآخر، وأهلها جميعاً إخوة وأهل نسب.
ولبنان بالذات يقدم المثال الحي عن أن البديل من التوحّد ضد العدو ـ الوطني والقومي ـ هي حروب الداخل، متفجرة أو صامتة..
لقد أُسقطت عوامل الوحدة بين الشعب الواحد، أو تكاد: تمّ تسفيه منطق المقاومة وتحقير منطقها، وعومل »العدو« برقة لافتة كادت تُسقط عنه ملامحه الأصلية، كعدو مبين، لتقدّمه كحليف موضوعي لبعض القوى المشغولة بالسلطة ولو على حساب الوطن، والتي تنسج تحالفات مشبوهة لا يمكن معها إعادة بناء الدولة بالوحدة الوطنية.
وتسفيه المقاومة في لبنان لا بد أن يمتد إلى المقاومة في فلسطين المحتلة، وإلى المقاومة ضد الاحتلال الأميركي في العراق..
وليس أمراً غريباً بالتالي أن نسمع مسؤولاً عربياً، يطالب في أخطر منتدى سياسي دولي بقيام منظمة إقليمية في منطقتنا تشمل العرب وتركيا وإسرائيل!
وليس أمراً غريباً، أيضاً وأيضاً، أن تأمر السلطات في مصر بنسف أنفاق الخبز والدواء والهاربين من الحصار الإسرائيلي لغزة إلى »المحروسة«، وأن تباهي بأعداد من قتلتهم من الفلسطينيين الذين حاولوا أن يدخلوها آمنين، هرباً من جلادهم، أو طلباً للعلم في جامعاتها، أو للارتحال عبرها إلى أي مكان يقبلهم!
.. مع إرجاء الحديث عن المصريين داخل مصر، الذين يقتلهم الإهمال والحرائق المفتعلة وطوابير الخبز والانهيارات في »الأحياء« التي بنيت على جرف المقطم.
[ [ [
تحية لكل الذين قدموا أرواحهم رخيصة من أجل تحرير أرضهم وإرادة شعوبهم في مثل هذا اليوم من العام 1973.
ولعل المسؤولين والقادة والعظماء من أركان الطبقة السياسية في لبنان وخارجه يتعظون بالتجربة المتميزة لسويسرا الذين يعرفون مصارفها ومنتجعاتها ولا يعرفون الكثير عن تاريخها، الذي قد يفيدهم استذكاره في يومهم وفي غد »دولهم« المهددة في وجودها.
.. خصوصاً أنهم يتناسون بقرار واع ذكريات وحدتهم التي بها يصنعون انتصارهم على أعدائهم مجتمعين!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان