… فأما رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى فهيّن أمرها، على كثرة من قد تطرح أسماؤهم لوراثة هذا المنصب الرسمي الذي استحدثه أهل النظام في لبنان، مطلع الستينيات، من ضمن الابتكارات المحققة للتوازن الطائفي داخل »الصيغة« السياسية الدقيقة حتى الهشاشة والصلبة حتى الاستعصاء على التغيير.
وأما ما قد يكون صعبا تعويضه بعد رحيل »إمام الحوار« الشيخ محمد مهدي شمس الدين فهو موقعه المميز على المستوى الفكري كداعية بين المسلمين بمنطق »قومي«، وكمحاور للمسيحيين بمنطق »وطني«، وكمبشّر بالمتحد العربي الإسلامي من خلال الوعي بالتحولات التي تجتاح الكون وتكاد تهز اليقين بالمعتقد الديني وتحاصر الإيديولوجيات لتفتح الطريق وحيدة الاتجاه نحو الليبرالية المتوحشة الأميركية.
قلة بين رجال الدين المسلمين العرب هم أولئك الذين نجحوا في تخطي الحاجز المذهبي، وهو قديم وثابت في النفوس لاتصاله بالمصالح وبالمؤسسات التي بُنيت عليها، فظل »السني« سنيا و»الشيعي« شيعيا، حتى إذا ما تراجع المد القومي اعتبرها المذهبيون فرصة لاستعادة مجد »الزعامة« وتصدر الصفوف بقوة الانقسام العميقة جذوره والهائلة فوائد المنتفعين باستمراره.
وفي التجارب السياسية التي اتخذت من الشعار الإسلامي راية لها لاستقطاب الجماهير فإن المذهبية ظلت طاغية، فنشأت جماعات وأحزاب وروابط وهيئات داخل البيئة المذهبية ذاتها… وحتى تلك التنظيمات التي طرحت نفسها »أممية« فقد حصرت عملها داخل المذهب الواحد، وإن في أقطار متعددة. تجاوزت حدود الدول دون أن تتجاوز الحد المذهبي المكهرب!
يمكن استذكار العديد من التجارب في مصر وفلسطين والأردن وسوريا والعراق والجزيرة العربية (الأخوان المسلمون، حزب التحرير الإسلامي، حماس، وبالمقابل حزب الدعوة الخ)، التي بالممارسة كما بالشعار كانت لا تتوجه إلا لأبناء مذهب واحد وبالذات..
بالمقابل، لم تتحول الدعوة إلى التقريب بين المذاهب إلى مؤسسة كبرى وفاعلة كما كان الوعد من إطلاقها،
وبديهي والحال هذه ألا ينتظم وألا يثمر الحوار بين المسلمين والمسيحيين، خصوصا وأن الانقسام بين الكنائس شرقية وغربية، في المجتمع العربي، لم يكن أقل حدة مما بين السنة والشيعة، ودائما بالمردود السياسي للانقسام.
لعل هذه الصعوبة كانت مصدر التحدي وسر النجاح في الجهد المتميز الذي بذله الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والذي صنّفه بين الرواد القلائل في مضمار تخطي الحواجز بين الطوائف (الإسلامية) ثم في محاولة التأسيس أو التأكيد على الروابط المصيرية بين المسلمين والمسيحيين من أبناء الجغرافيا الواحدة والتاريخ الواحد والمحكومين بمصير واحد، يتعدى الرغبات ويتخطى المصالح الفئوية المرتكزة إلى الانقسام وكأنه واقع.. أبدي!
ربما لأنه »لبناني« فإنه فهم الموقع الحساس »للمسيحي« في الدعوة القومية، وأنه لا بد له من مرتكز »وطني« يطمئنه إلى حقوقه كمواطن، أي كأحد العناصر المكونة للأمة، وليس كأقلية طائفية قد تغويها السياسة فتأخذها إلى الخلط بين الدين والقومية أو إلى اتخاذ الدين قومية (كما اليهود)، أو قد تغري الأكثرية بها فتنكر عليها حقوقها في مجتمعها وتجعلها تهرب من الظلم إلى الهجرة أو إلى الانطواء على الذات والتسبب في اعتلال المجتمع.
وربما لأنه »من جنوب الجنوب« في لبنان، القائم تخماً لفلسطين اكتوى مبكرا بالنار الإسرائيلية، وفتحت مأساة التهجير بقوة السلاح الذي تعرض لها شعب فلسطين، وعيه على حقيقة الصراع التاريخي وطبيعته القومية، حتما، والذي سيقرر إلى حد كبير مصير هذه المنطقة جميعا، بمسلميها ومسيحييها، لا فرق بين أكثرية دينية وأقلية طائفية.
وربما لأنه أمضى شبابه الأول في العراق فإنه قد فهم أكثر تلك العلاقة الشوهاء بين السنة والشيعة والتي تسبّبت في إدامتها وتسميمها الصراعات على السلطة في زمن مضى، وأنه قد آن الأوان لتصفية رواسبها الثقيلة، سياسيا، طالما أن الهيمنة الأجنبية قد ألغت دور أهل البلاد جميعا في حكم بلادهم، وأنه صار من العبث أو السخف أو الجنون أن يستمر المختلفون على الخلافة في الزمن القديم على خلافاتهم بينما هم جميعا تحت حكم الأجنبي (الكافر) أو مخضعون لإرادته ومهددون في الوقت نفسه بالاجتياح الإسرائيلي.
لم تكن مصادفة أن يتطلع الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى القاهرة، وإلى الأزهر فيها تحديدا، بوعي سياسي لخطورة الدور المطالب بلعبه وانطلاقا من كبرى العواصم العربية ذات الوهج الإسلامي، والتي طالما ميّز تاريخها الديني ذلك الصفاء في العلاقة بين المسلمين والأقباط من أهلها (قبل أن تسممها أغراض السلطة)..
أما دمشق فكانت منزله الثاني، ومنبر دعوته إلى المتحد العربي الإسلامي، الذي وصلت أصداؤه إلى السودان والجزائر والجزيرة والخليج، فضلاً عن فلسطين.
فلسطين كانت في وجدانه أرض ذلك »المتحد« العتيد،
ومن المفارقات أن رئيس المؤسسة الشيعية السياسية الرسمية كان ضد الشيعية السياسية، وأن رجل الدين المسلم كان يُسقط كل تلك الادعاءات التي تُخرج المسيحي من الأمة لتجعله »ذميا«، بقدر ما يُسقط دعاوى تكفير القوميين بذريعة أن الإسلام أممي والقومية اختراع مسيحي غربي مثلها مثل الماركسية الملحدة الخ..
ولسوف يذكر له إلحاحه على الشيعة بأن يندمجوا في مجتمعاتهم وألا يقبلوا أو يطلبوا حقوق الأقلية، وألا يطغوا أو يبطروا إذا ما استشعروا أنهم في بعض الأقطار قد غدوا أكثرية.
وكذلك تشديده على رفض تسليم الحركات الإسلامية السلطة، ورفض ولاية الفقيه والتشديد على ولاية الأمة على نفسها.
من هنا ان للداعية الإمام محمد مهدي شمس الدين مناصرين وتلامذة وأصدقاء في معظم الأقطار العربية، سيفتقدون مثل اللبنانيين وأكثر دوره الرائد في تجاوز المذهبية إلى الإسلام الحق، وفي التأسيس لذلك المشروع الفكري السياسي الطموح: المتحد القومي.
متسامحا في »حقوق« الطائفة لحساب حق الوطن، مقاوما ضد الاحتلال باسم الإسلام، محاورا لتغليب أسباب الوحدة وهي أصيلة وثابتة على عوامل الفرقة وهي طارئة وموضع استثمار أجنبي وبين عوامل الفتنة الداخلية والإخضاع للقهر الخارجي.
الداعية بامتياز، كما في ظل رسل الإيمان، الموحد المقاتل بالفكر والقلب واللسان ضد التقسيميين والمقسمين، اللبناني، السوري، العراقي، المصري، الجزائري، السوداني والفلسطيني ثم الفلسطيني ثم الفلسطيني حتى التحرير.
رحم الله هذا المجتهد المستنير الذي فقدناه بينما نحن في أشد الحاجة إلى المزيد من النور لنعرف أنفسنا ولنتعرف إلى أسباب وحدتنا ولنهتدي إلى السبيل السواء إلى مستقبلنا المهدد بأسباب الفرقة في حاضرنا البائس.
والعوض في الأمة الولادة والمجددة نفسها بالفكر كما بالعمل.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان