كان التحرير في 2000/5/25 مفصلاً تاريخياً. استمرّت المقاومة منذ ذلك الحين من أجل تحقيق ثلاثة أهداف محدّدة هي: تحرير ما تبقى من أرضٍ محتلّة وتحديداً في مزارع شبعا، واسترداد الأسرى اللبنانيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، وردع اعتداءات إسرائيل المستمرّة على أجواء لبنان ومياهه الإقليمية وأحياناً على أهداف برية. ما كان السلاح يوماً هدفاً في ذاته، بل كان دوماً وسيلَة لتحقيق تلك الأهداف المحدّدة.
هناك داخل لبنان وخارجه مَن جعل من وجود المقاومة وسلاحها قضيّة. فكان الرد، في ضوء الأهداف الثلاثة التي نذرت المقاومة نفسها لتحقيقها، أنّ هذه الأهداف لا يجوز التخلّي عنها أو عن أيٍّ منها. فإن لم تكن المقاومة هي الوسيلة لضمان تحقيقها، فلتكن هناك استراتيجية بديلة للدفاع عن أمن لبنان القومي إن كان مثلها مُتاحاً في ظل المعطيات السائدة في البلاد.
قبل أن يصل مؤتمر الحوار الوطني إلى حلّ توافُقي لهذه المسألة الحيوية، قرّرت الدولة العظمى أميركا، على ما يبدو، إطلاق آلة التدمير والإبادَة التي أودعتها ربيبها الإرهابي، الوحش الإسرائيلي، ضدّ لبنان من أجل فرض صيغَة للحلّ تسمّى شرقاً أوسط جديداً أو كبيرا، يرمي إلى القضاء على رابطة العروبة نهائياً في المنطقة من جهة، وإلى تسليط الصهيونية على المنطقة بأسرها من جهة ثانية. هذا هو مِحور الحرب الوحشية التي تُشنّ على لبنان وشعبه وبُنيته. وهذا ما يوحِي به حديث المسؤولين الأميركان عن شرق أوسط جديد.
إنّنا كلبنانيين نرفُض الحرب وأهدافها الجهنميّة جُملةً وتفصيلا، ونتمسّك بالأهداف الإستراتيجية التي وجدت المقاومة أصلاً من أجل صونها منذ التحرير.
وعليه فإنّ المقاومة يجب أن تُعلن انتصارها وانتصار لبنان، وبالتالي استعدادها للإنضِواء تحت لواء الجيش اللبناني الباسل، الذي كان دَوماً ولا يزال خير عضد لها، عند بلوغ الأهداف الثلاثة: أي عند تحرير مزارع شبعا واستعادتها إلى كنف الشرعية اللبنانية، وتحرير الأسرى اللبنانيين المحتجزين في المعتقلات الإسرائيلية إلى ما لا نهاية، مع أن تحريرهم مطلب تبنّته الحكومة التي تشارك المقاومة فيها ضمن بيانها الوزاري، وأخيراً إيجاد ضمانات موثوقَة لعدم مواصلة إسرائيل اعتداءاتها على لبنان جواً وبحراً وبراً في عربدة لا تُطاق.
وإذ تُعلِن المقاومة انتصارها فإنّها تُعلِن عَملياً انتهاء عملها المسلّح. فبعد تحقيق الأهداف الثلاثة لا يعود ثمّة داعٍ من الزاويَة اللبنانية للمقاومة المسلّحة.
إلى كل ذلك من حقّ لبنان أن يطالب أميركا بالكفّ عن تسخيره مِعبَراً لضغوطها المريبَة في المنطقة: على فلسطين وسوريا والعراق وسائر الدول النفطيّة، تحقيقاً لمآربها الذاتية والتي تتماهى ومآرب الكيان الصهيوني. لبنان ليس ساحة مُستباحَة تُصفّي الدولة العظمى عبرها حساباتها الإقليمية والدولية.
لن تتوقّف المقاومة قبل تحقيق الأهداف الإستراتيجية الثلاثة التي تضمن كرامة لبنان وحصانته ووحدته ووجوده. وعند بُلوغ هذه الأهداف يستطيع اللبنانيون الإنصراف، بعد إعادة الإعمار، إلى العمل على خطّين متوازيين: الإصلاح الديموقراطي والتنمية الشاملة.
ولكن حزب اللَّه سيبقى كقوّة سياسية متميّزة في صلب، لا بل في طليعة، حركة الممانعَة الشعبية العربية إلى أن يتحقّق الحلم العربي، بقِيام كيان فلسطيني واحد موحّد، يعيش فيه العربي واليهودي جنباً إلى جنب، ويعود إليه اللاجئون الفلسطينيون، كل اللاجئين، إلى ديارهم في فلسطين، كل فلسطين الممتدّة من البحر إلى النهر، بموجب القرار 194، وتكون القدس عاصمته.
إذا ما انتهت الحرب المستعِرة بتسوية عادلة ما بين حزب اللَّه وإسرائيل عبر مفاوضات غير مباشرة، فإنّ ذلك سيكون انتصاراً مبيناً لحزب اللَّه، بخاصة إذا ما اقترن بحرص مُطلق على عدم التفريط في أيٍّ من الثوابت الوطنية والقوميّة، وسيكون هذا الإنتصار سبباً لتعاظُم شأن حزب اللَّه ومكانته كقوّة سياسية على الصعيدين اللبناني والعربي. وذلك لمجرّد أنّ الصفقة تكون قد عُقدت بين حزب لبناني ودولة معروفة بأنّها أعتى قوّة في الشرق الأوسط ومدعومة من أعظم قوّة في العالم. ما كانت تسوية في الماضي بين طرف عربي وإسرائيل إلاّ على حساب بعض المصالح الاستراتيجية القومية. فإذا ما جاءت التسوية مع حزب اللَّه عادلة، من دون أدنى تفريط بالثوابت الوطنية والقومية، فإنّها سوف تُعزّز مكانة الحزب سياسياً وقومياً على المستويين اللبناني والعربي. أمّا الثوابت الوطنية والقومية فتشمل عدم الإعتراف بالكيان الصهيوني، وعدم التوقيع على صكّ يُسمّى سلاماً أو صلحا، وعدم إهدار الحقوق الفلسطينية أو القومية في فلسطين. وتبقى الأولويّة المطلقة في أي حال لوقف إطلاق النار.
نشرت في “السفير” 29 تموز 2006