يستخدم أهل السياسة في لبنان مصطلحات سياسية للتعمية. هي في الأساس غير قانونية وغير دستورية. الهدف المباشر منها إظهار صورة أصحابها بأنهم أطهار، والأغيار أشرار. أهل السياسة، خاصة أحزاب السلطة، متحمسون جداً لهذه التعابير. إن إقتسام الجبنة والتعبير المناسب لذلك هو مصادرة أموال الناس المنقولة وغير المنقولة، بما يمكن تسميته “حيازة الملكية بالمصادرة”، أو شراء أملاك الدولة والأفراد والأوقاف بأسعار متدنية بعد أن تهاوت الليرة ومعها أسعار العقارات المبنية وغير المبنية. وحيازة أعلى نصيب مما هو متاح يجعل الصراع حاداً وأكثر بما يوصل الى عدم استقرار بعد أن أصاب الجوع الناس. المصطلحات السياسية توحي وكأن الصراع هو في مكان آخر، أو على شيء آخر. هو صراع على لبنان، بالأحرى على ما يمكن أن يمتلك من متاع الدنيا في لبنان. مصطلحات السياسة توحي بغير ذلك.
الأكثر صفاقة بين هذه التعابير “حقوق الطوائف” على الدولة. فكأنه لا يكفي أن الطوائف لا حقوق لها على الدولة، وأن الدولة مجبرة للعمل لصالح الطوائف التي لا تقدم للدولة والمجتمع أي خدمة، بل تريد الأجر من الدولة. لم تعد الطائفة تفيد الأتباع في “أننا” الأطهار والآخرون الأشرار وحسب، فهم يريدون أجر ذلك.
مصطلح آخر جديد هو “الميثاقية”. لا نعرف بالتحديد معنى هذا التعبير، ومتى عقد الاتفاق بين الطوائف، في مؤتمر لم يعقد. الميثاق كذبة كبرى إلا إذا أشير الى شيء آخر. هناك خطاب لرياض الصلح عام 1942، الذي أشار فيه الى أن لبنان لن يكون ممرا ولا مقرا (وهو خطاب وزاري كتبه نصري معلوف وكاظم الصلح كما أخبرني الاستاذ نصري في آخر أيامه)، واعتبر بمثابة ميثاق.
أما تغيير اتفاق الطائف، وثيقة الوفاق الوطني، فهو اتفاق أدخل في الدستور في بداية التسعينات، وليس له مفعول قانوني أو دستوري. الدعوة الى المثالثة أو المناصفة مع المثالثة (وهو أمر يحتاج الى تفسير مدى صحته في علم الحساب)، فهو أمر يحتاج الى تعديل الدستور. وهو أمر متاح في الدستور والبرلمان، ولا يستدعي انعقاد “جمعية تأسيسية” أو “مؤتمر تأسيسي” جديد. عندما انعقد مؤتمر الطائف في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، احتاجوا الى بقايا المجلس النيابي الموجود منذ عام 1972. تعديل الدستور منوط بالبرلمان وحده. فهو المنتخب من الشعب. ولا يمكن أن يكون منوطاً بمؤتمر تأسيسي لا نعرف كيف يتم اختيار أعضائه، إلا إذا كانت هناك دول كبرى واقليمية مستعدة لذلك؛ بالإذن من الخائفين على السيادة.
السؤال هنا هو لماذا العودة دائما، أو خلال كل أزمة، الى نقطة الصفر، ولا يبنى على القديم ليحدث تراكم سياسي تطوري إصلاحي؟ أم أن التراكم السياسي كما التراكم الاقتصادي أمر غير مرغوب؟ وهل المراد تدمير كل بنية سياسية من أجل أن يأتي المنقذون ويقومون بعملهم؟
أما “الفساد”، فلا أحد من أساطنة الحرب على الفساد أعطانا حتى الآن تعريفا؛ أم هو مصطلح لابتزاز الآخرين؟ يقودنا مصطلح الفساد الى مصطلح “الثلاثين سنة الماضية”، والتي يزعمون أن ما حدث فيها قاد الى ما نحن عليه اليوم، مع إغفال الحرب الأهلية بين 1975 و1990. نفهم أن مصطلح “الثلاثين سنة” واقترانه ذهنيا بالفساد يقود الى رفيق الحريري ومرحلته. لكن نصف الثلاثين سنة، أي بعد العام 2005، ساهم خصوم الرجل في السلطة وأحيانا حكموا وحدهم. هو ميت، في دنيا الآخرة. وهم أحياء. هل يستطيعون الدفاع عن حصتهم في الفساد.
نأتي الى مصطلح “الاقتصاد الريعي” والانتقال الى اقتصاد منتج؛ من منع أصحاب السلطة من الانتقال الى الاقتصاد المنتج؟ أم أنهم لا يعرفون عما يتكلمون، ولم يقرأوا كتاب الاستشاري ماكينزي؟ في أيامهم انتشرت مولدات الحي للتزويد بالكهرباء وازداد عمل الكميونات للتزويد بالماء؛ كان ذلك خصخصة غير رسمية.
“استعادة الأموال المنهوبة”. هل يعني المصطلح الأموال التي هربت للخارج وحسب؟ هل المعنى أن يعود بها أصحابها الى لبنان حيث يتمتعون بها؟ إذا كانت هذه الأموال شرعية، فإن لأصحابها حق التصرف بها كيفما شاؤوا، وذلك حسب القانون. أما إذا كانت غير شرعية فإننا لم نرَ واحداً من أصحاب الأموال غير الشرعية تم تحويله للقضاء. ليس هناك آلية قانونية لتطبيق هذا الشعار. بعضهم قرأوا عن المصادرات في القرون الوسطى. كان الوزير يُعزل ويُعذب ويُصادر.
وماذا عن إيداعات اللبنانيين داخل المصارف والباقية داخل لبنان؟ هي مصادرة فعلا، أي منهوبة فعلاً، رغم أن مصادرة هذه الأموال تخالف القانون صراحة. أم أن كميات هذه الودائع لم تعد تهمهم؟ هم يتطلعون الى الودائع الكبيرة التي رحلت الى خارج لبنان. لا بدّ وأن هؤلاء يعرفون أنه في كل أزمة يعانيها بلد أو منطقة، تهرّب رؤوس الأموال المالية، بالأحرى يتغيّر مجرى تدفقها ويصير الخارج سبيلها. وهل هذا الأمر هو مجرد نتيجة لأزمة أو سببا لها.
أما العدو الاسرائيلي، فهناك اعتراف وممانعة في وقت واحد.الذين يمانعون يقيمون علاقة مع بلدية فلسطين التي صارت دولتين بفضل “ممانعة” الإسلام السياسي. غزة جزء من دولة فلسطين مع انفصال في الإدارة. بناء على حل الدولتين المعتمد، غزة تعترف بإسرائيل، والممانعون عندنا يؤيدون حل الدولتين ويمانعون في وقت واحد. لا ندري ماذا يقاومون: إسرائيل أم بلدية فلسطين؟ أما كان من الأفضل والأنسب والأشرف التخلي عن حل الدولتين وتبني الدولة الواحدة؟ سيكون الفلسطينيون فيها مواطنين درجة ثانية وستكون حقوقهم المدنية والإنسانية مسلوبة كما هي الآن. لكن سيكون لهم بعض الحقوق ومجال أكبر للنضال داخل مجال أكبر. مجال لن يكون إلا فلسطين كلها. وستكون إسرائيل دولة أبارتيد، وسيكون النضال الفلسطيني ضد عدو عنصري يعرفونه ويعرفون أن مصيره هو نفس مصير دولة الأبارتيد في جنوب أفريقيا. حل الدولتين لا يعني أكثر من غيتو للفلسطينيين. هكذا يبقى شعار “تحرير فلسطين” ذي معنى. عندها سيكون محو الأبارتيد محوا لإسرائيل. العالم في معظمه ضد الأبارتيد لكنه ليس ضد إسرائيل. أليس شعار الدولتين إنقاذا لإسرائيل؟
المصطلحات السياسية لا تستخدم للتعمية فقط، ولا هي مخالفة للدستور والقانون فقط، بل توحي أسماء الأحزاب كلها تقريبا بتعالي أهلها على الناس. فالوفاء للمقاومة يحتم الطاعة لسيّد شريف قام بمهمة دون الآخرين. على الآخرين الذين لم يقوموا بهذه المهمة التي كان يُفترض أن تكون فرض عين، أي أن يقوم بها الجميع، الطاعة والوفاء والمحبة لمن يمثلها. أما أحزاب الجمهورية القوية ولبنان القوي، فهي تفترض القوة على الآخرين من شعبها، بين أشياء أخرى. أما شعار لبنان أولا، لا الشعب وتمثيله أولا، فهو شعار يلامس الفاشيستية. تستهوي الأحزاب في لبنان ألقاب تؤكد سلطتها على الناس ومنتها على المجتمع. ليس واحدا من هذه الأحزاب يتخذ اسماً أو شعارا يكون عنواناً على سياسة اجتماعية تعبّر عن انتماء للناس. كلها تقريبا تريد من الناس الطاعة لها، بما يشبه الفاشية. وجميعهم يدعي تبني موقف أخلاقي يميزه عن الناس. يعتبرون التعالي الأخلاقي ميزة. “نحن” على قمة الجبل، “هم” في قعر الوادي. “هم” صفة لكل من خالفنا في الدين والمذهب والطائفة والرأي.
أما الذي يقول “ما في دولة” أي الدولة غير موجودة أو ضعيفة، أو يقول أعطونا دولة نعطيكم بالمقابل كذا وكذا، فهو يعطي نفسه رخصة للخروج على الدولة ومخالفة قوانينها ودستورها. حان الوقت ليكون جواب الناس لكل قائل بذلك: الدولة موجودة إلا عندك وأمثالك.
وعندنا رئيسان بينهما حرب داحس والغبراء حول تشكيل الحكومة. كل منهما يرمي الآخر بتهمة مخالفة الدستور (طبعا الأمر يستوجب المحاكمة). وكل منهما يقول “أنا الدولة”. أنا أو لا أحد. قالها الملك الفرنسي، “أنا الدولة والدولة أنا”، في القرن الثامن عشر أو في نهاية القرن السابع عشر. زرع هذه الايديولوجيا، مما أدى الى نهاية الحكم الملكي بعد ملكين أو ثلاثة. لكن الزمن لن ينتظرنا.
التواضع ليس سمة من سمات أهل السلطة في لبنان. فهم لا يريدون العلاقة مع صندوق النقد الدولي (بينما يجري التطعيم بقرض من البنك الدولي)، وذلك حرصا على السيادة؛ سيادة دولة لا يريدونها، والطائفية تؤدي الى تنظيمات تعلو على الدولة، وتحل مكانها أو تجعل منها خادمة للطوائف. لا يريدون صندوق النقد الدولي لكنهم يرحبون بالبنك الدولي (أخيه)، وإن اختلفت المهمات. أليست قروض البنك الدولي أعباء على الدولة وافتئاتاً على السيادة؟ أم أنهم يرفضون صندوق النقد لأنه معني بحسابات الدولة؟ الفضيحة كانت عند الاجتماع الأول مع صندوق النقد، حين ظهرت حسابات الدولة عند كل من لجنة المال البرلمانية ووزارة المالية والمصرف المركزي مختلفة ومتناقضة. هل بلغنا درجة من التأخر العقلي حتى بتنا نجهل علم الحساب وقواعد الجمع والطرح والضرب والقسمة؟ أم أن تعمية الحسابات أمر مطلوب؟ تطلبه وتفرضه الطبقة الحاكمة وتنفذه السلطة؟ مطلب توحيد الموازنة مطروح منذ عقود. الذين حكموا في الخمسة عشر سنة الماضية لم يحققوه ولم يلامسوه. ومنهم من يجيد علم مسك الدفاتر. هم يجيدون مسك دفاتر حساباتهم الخاصة ويعيثون فسادا في دفاتر الدولة. الدولة موجودة فعلاً ولا يراد لها قوام.
وهذا غيض من فيض. مشكلة الدولة هي فساد الطبقة الحاكمة التي تمسك بزمامها. الفساد هو أنهم لا يميزون بين حساباتهم الخاصة وحسابات الدولة. والطائفية حامية أولى للفساد. إذ تضع كل طائفة “خطاً أحمر” عندما يحال أي من الطبقة الحاكمة، خاصة أكباش الطوائف، الى المساءلة. ممنوع المس بهؤلاء. وهم أصل كل فساد. أليس “الخط الأحمر” الطائفي أخطر مصطلحات النفاق السياسي في لبنان؟
ايداعات الطبقات الوسطى والدنيا في المصارف أصبحت في حوزة مالك آخر هو المصرف المركزي. هل حقوق الناس عند المصارف أو عند مصرف آخر؟ من أعطاهم الحق بالتلاعب بأموال الناس؟ وهل ذلك إلا مصادرة؟ نعود الى ا”التملك بالمصادرة”. ربما كان هذا هو المصطلح الوحيد الصحيح. يتكلمون عما لا يريدون وربما لا يستطيعون استرجاعه، بينما هم يريدون ايداعات اللبنانيين في الداخل. هم على كل حال ينفقونها على أساس مبدأ أن: “للضرورة أحكام”: دعم المواد الأساسية، وخاصة الغذائية، بطرائق تسمح للمهربين وممولي التجار الاستفادة منها.
ما كان يسمى نفاقا صار احتيالا تمارسه السلطة على شعبها. والسلطة تتصرّف وكأنها عصابة. دولة المافيا بجميع أطرافها.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق