تبدت المفارقة مفزعة بدلالاتها يوم أمس: بين مشهد الحشد الشعبي الأسطوري الذي فاضت به ساحات بيروت وشوارعها، وبين القدرة على حل الأزمة السياسية التي تأخذ بعنق البلاد، بمثل هذا الأسلوب الديموقراطي.
لقد نزلت المعارضة إلى الشارع بطوفان جماهيري لم يسبق للبنان ان عرف له مثيلاً، رافعة شعار تغيير الحكومة البتراء التي باتت عنواناً للأزمة ولتداعياتها التي لا حصر لمخاطرها.
كان المشهد لوحة رائعة للممارسة الديموقراطية: آلاف الآلاف يتقاطرون من كل مناطق لبنان وجهاته فيتلاقون في أفياء عاصمتهم الأميرة، بيروت، التي طالما شكلت حاضنة للنضال الوطني والقومي، يهتفون ويهزجون ويرددون شعاراتهم المدروسة والمطالبة بتغيير الحكومة مغناة، ثم ينفضّون بهدوء لافت وبنظام حديدي ، فلا شجار ولا تزاحم ولا استفزاز لأي طرف، ولا اعتداء على الأملاك العامة… مع تقدير معلن وناضح بالود تجاه قوى الجيش والأمن المكلفة بحفظ سلامة الممارسة الديموقراطية، والتي تعاملت مع هذا الطوفان الجماهيري بانضباط صارم يخالطه الحرص على المعارضين بوصفهم أخوة لهم أتوا كما أتى غيرهم من قبل، وكما قد يأتون من بعد فمارسوا حقهم في التعبير عن رأيهم بالشعار المحمول والهتاف المغنّى، ثم عادوا من حيث جاءوا إلا المكلفين بالاعتصام حتى تحقيق المطالب، في مواجهة السراي مقر من يطالبون برحيله.
ولكن… بموازاة هذا المشهد الديموقراطي كانت الدول جميعاً، تتحرك تحت قيادة الإدارة الأميركية لحماية الحكومة الدستورية والرئيس فؤاد السنيورة، بوصفه رجل الدولة وحارس الشرعية والدستور في لبنان.
ومع التقدير للدور الذي لعبته المملكة العربية السعودية في التهدئة، وجهود سفيرها في بيروت من أجل إيصال الأطراف السياسيين إلى تسوية أو حل وسط ، فقد حفل يوم أمس بظاهرة جديدة لافتة: فلم نألف، من قبل، ان يتصل عاهل السعودية شخصياً برئيس الحكومة وبالوزراء المعتصمين أو المحاصرين في السراي ، ويخاطبهم واحداً واحداً، بكل ما يعنيه مثل هذا الاتصال من دعم، وبالتالي مما يمكن اعتباره موقفاً مسانداً لهم في وجه معارضيهم.
ولم يتعود اللبنانيون من الدول العربية المؤثرة، وبالذات السعودية، إلا الحرص على وحدتهم وحضهم على التقارب والتفاهم والاشتراك في بناء سلطة تحظى بإجماعهم، أو تؤمن الوفاق بينهم.
ومع التقدير لحرص السعودية على تعزيز الاستقرار في لبنان، فلا يمكن فهم هذه المبادرة إلا إذا رأينا فيها تدعيماً لموقف الحكومة ورئيسها ومنع انهيارها، تمهيداً لأن تباشر المملكة دوراً
مطلوباً في صياغة مشروع الحل العتيد، الذي يعجز اللبنانيون، حتى الساعة، على الوصول إليه بأنفسهم.
والمشهد الذي قدمته بيروت للعالم عموماً وللعرب خصوصاً يوم أمس يستحق التقدير والاعتزاز، إذ ان المعارضة التي تتمتع بكل هذه القوة الجماهيرية التي فاضت عن ساحات بيروت جميعاً، تلتزم المسلك الديموقراطي في طلب التغيير، من داخل ركائز النظام وموجبات الوفاق الوطني.
? ? ?
ومن البديهيات ان اللبنانيين لا ينتظرون من الإدارة الأميركية إلا تحريض بعضهم على البعض الآخر، خصوصاً انهم يحفظون لها دورها المباشر في الحرب الإسرائيلية على لبنان، وما جرى على هامشها من محاولة لسحب جماعة 14 آذار بعيداً عن المقاومة وتحريضهم عليها،
كذلك فإن تصدّر تصريحات التأييد والمساندة للرئيس السنيورة وحكومته من جانب المسؤولين البريطانيين والفرنسيين عموماً، يتقدمهم الرئيس جاك شيراك، ويلتحق به المرشحون المتعارضون سياسياً لخلافته في الرئاسة هو أمر له ما قبله وهو متوقع ومفهوم.
? ? ?
وبديهي أن نعتبر أن الأشقاء العرب أحرص على لبنان وأعرف بشؤونه من الأجانب ولو كانوا أصدقاء .
في المقابل نحب ان نفترض ان الدعم العربي، خاصة، لحكومة السنيورة هو مقدمة كان لا بد منها من أجل مبادرة ترتكز إلى حل وسط مفتقد، وذلك عبر إضافة النفوذ العربي إلى الرصيد الضعيف للحكومة لكي يمكن بعد ذلك الحديث مع المعارضة من موقع الند ولو كانت قوته من غيره.
ولعل الأيام القليلة المقبلة تحمل الجواب.. المطلوب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان