حتى من قبل »الجمعة الحزينة« في بعلبك، كان البقاع يتقلّب بين وجع الإهمال المنهجي والمستمر برغم تقلّب العهود، وبين وجع التجني بتصويره دائماً عاصياً، خارجاً على القانون، »طافراً« مطلوباً من العدالة بينما هو يطلبها فلا يمنّون بها عليه، متمرداً على الدولة التي حملها كالحلم في قلبه وعقله وأبقته دائماً خارجها فإن اعترفت به استبقته »قيد الدرس« واعتبرت أهله »ملحقين« ومن الدرجة الثانية، حتى وهم في قمة السلطة!
بل ان هذه السلطة لم تصل إلى البقاع إلا لأن مواطني الدرجة الممتازة قد رفضوا إيواءها وحمل صليبها الثقيل..
على أن »السلطة« وصلت من دون »الدولة«، ثم صار للسلطة دولتها وبقي البقاع على حاله خارج ميزانية الدولة وخارج ذاكرة أهل سلطتها جميعاً، بمن فيهم المتحدِّرون من البقاع!
سمع البقاعيون كلاماً بليغاً عن الإنماء المتوازن، فافترضوا أنهم مع إخوانهم الفقراء والمفقرين من أبناء »الملحقات« هم المعنيون، وأن مناطقهم ستعرف أخيراً ما يحفظ أهلها فيها، من اهتمام بالزراعة وتصنيع المنتجات الزراعية والانتاج الحيواني، إلى ربطها بالمركز بشبكة »الأوتوسترادات« التي كانت تُطرح دائرية تارة، وذات جسور وأنفاق أو معلقة تارة أخرى، وعريضة دائماً بحواجز ومواقيت للشاحنات تضمن للناس السلامة واليسر في الحركة من أجل مزيد من الانتاج.
قدّروا أنهم خلال بضع سنوات سيعرفون السدود، صغيرة وكبيرة، ترابية أو مبنية بالاسمنت المسلح، وأن المشروع الأخضر سيساعدهم في استصلاح أراضيهم، وأن مصرفاً زراعياً سيمدهم بالقروض الضرورية لتحسين وسائل إنتاجهم، وأن تعويضات مجزية ستدفع لهم مكافأة عن تخليهم عن زراعة الحشيش والأفيون التي كانت تدر عليهم دخلاً ممتازاً وامتنعوا عن الاستمرار فيها ليحموا سمعة بلادهم من التشويه وليجنّبوها الاتهامات الظالمة التي كانت تدمغها مرة بالإرهاب ومرة أخرى بتبييض العملات السوداء ودائماً بأنها أحد المراكز الدولية لتصنيع المخدرات وتهريبها أو الاتجار بها.
لكن السنوات مرّت سراعاً، ونفدت المدخرات، وكسدت المواسم الزراعية التقليدية بعدما أقفلت أبواب الأسواق العربية في وجهها، واتخذ التهريب طريقاً عكسياً فصار مصدر إضرار بهم بعدما كان قد شكّل لهم مصدر نفع، ولو غير شرعي، في زمن مضى..
لم يتبق امامهم غير الهجرة او النزوح الى احزمة البؤس المتجددة من حول بيروت،
اما باب الهجرة فسرعان ما أقفله القرار الدولي الذي كان فتحه، خلال الحرب الأهلية وبعد الاجتياح الاسرائيلي، لأغراض سياسية معلومة،
واما احزمة البؤس فقد عادت تتضخم كالورم السرطاني من حول العاصمة التي يعاد بناؤها لغير أهلنا وها عماراتها الكرتونية تزدحم بالعائلات الكثيرة الأطفال والتي يتكدس فتيتها في طرقاتها الضيقة والمحفرة والموحلة، يقتتلون طلبا للقمة العيش فلا يجدونها دائما ولا يجدون من مأزقهم الحياتي مخرجا او شبه مخرج.
* * *
ليس هذا الكلام دفاعا عن الشيخ صبحي الطفيلي الذي لم يفعل غير استثمار جرح نازف فعلا لأغراض سياسية،
قبل الشيخ صبحي الطفيلي سعت قوى سياسية عديدة لاستثمار هذا الجرح، وأثارت مسألة العلاقة الشوهاء بين »الدولة« وأبناء البقاع، لا سيما منهم ابناء »بلاد« بعلبك الهرمل،
ولعل الخطأ الحقيقي للطفيلي انه حاول توظيف هذه القضية العادلة، اي الاحساس بالمهانة الذي يتجرعه يوميا أهالي هذه »البلاد« في صراعه السياسي المباشر مع »حزب الله«، وهو صراع لن يؤدي مهما كانت نتائجه الى انصاف البقاع والى »زراعته« بالمشاريع الانمائية والى تأمين فرص عمل جدية لأهله، وبشكل أساسي: الى تصحيح علاقته بالدولة… دولته.
فالبقاعيون، وبالذات منهم أهل بعلبك الهرمل، ليسوا طرفا في ذلك الصراع الحزبي، وان كانوا قد قدموا للمقاومة زهرة شبابهم، وحموها وسيظلون يحمونها بمآقي العيون،
كذلك فهم يطلبون الدولة ليدخلوا فيها لا ليقاتلوها،
والجيش جيشهم، أعطوه في الماضي ويعطونه اليوم فلذات أكبادهم وولاءهم بوصفه جيش الدولة وأحد رموزها الأساسية ، وهم لم يرغبوا يوما في مواجهته، وهم اليوم بالتحديد حزانى يبكون ضحاياهم منه ومن مناصري الشيخ الطفيلي على حد سواء..
كل الضحايا بقاعيون، ولهذا قوة الرمز،
كأنما البقاعيون منذورون ليكونوا الضحايا: تعز عليهم نعمة »المواطنة« ولا تتاح لهم دائماً نعمة »الشهادة«، فيعيشون خارج النعمتين، أو يموتون طلباً لأي منهما..
***
لا يختصر البقاع، في رجل، ولا تختزل قضيته في هبَّة اتخذت في البداية طابعاً مطلبياً عنوانه »ثورة الجياع«، ولا هي تضيع أو تنتهي اذا ما تورط الشيخ صبحي الطفيلي في صدام غير مبرر مع جيش جاء عديده من البيئة ذاتها فالجنود أيضاً أبناء محرومين يطمحون الى عدل الدولة والى حقهم فيها لا
يتوجهون الى غيرها ولا يطلبون من غيرها شيئاً.
وكائناً ما كان مصير الشيخ صبحي الطفيلي فان جرح البقاع ما زال ينتظر العلاج، ولعله وهو نازف الان يفرض نفسه كأولوية على جدول أعمال الحكم.
لم تبدأ القضية مع الطفيلي لتنتهي »بغيابه«، بل ان القضية قد أعطت الطفيلي ذات يوم حجماً اسطورياً لم يحلم بمثله حتى حين كان على رأس تنظيم »حزب الله«.
وليس من باب العلاج ان تعلن »بلاد بعلبك الهرمل منطقة عسكرية، وان تفوِّض السلطة الجيش المسؤولية عن »أمنها« بل كان الاحرى ان تعلن تلك »البلاد« منطقة منكوبة، وان تخصها الحكومة ببرنامج انمائي استثنائي تحفظ أهلها فيها وتعيد اليهم الثقة بدولتهم التي تملك ما تعطيهم غير رصاص بنادقها،
صحبي الطفيلي من البقاع لكنه ليس البقاع،
والجيش من الدولة ولكنه ليس الدولة، وليس هو »الحل« بالتأكيد، ومن الظلم ان يحمَّل المسؤولية عن نتائج الحرمان المزمن أو ان يطالب بحسم صراعات سياسية داخل حزب أو بتنفيذ أغراض سياسية تعطلها نجاحات هذا الحزب او تفضح اصحابها الذين لعلهم شجعوا الشيخ صبحي الطفيلي ذات يوم، ولعلهم حرضوه، فلما جاءت ساعة الحقيقة تخلوا عنه وأنكروه ثلاثاً قبل صياح الديك.
والمدخل الى قضية البقاع الاعتراف به ثم بعدالة قضيته، والمبادرة الى تنفيذ ولو »وعد« واحدمن الوعود التي تتهاطل عليه في »المواسم« ثم تختفي مع وصول اصحاب الوعود الى »عروش السلطة«… خارج البقاع!
ملحوظة: ترى هل آن الأوان للمباشرة بصرف الميزانية الاستثنائية التي يعرف الجميع انها قد خصصت وبقانون خاص »لبلاد« بعلبك الهرمل ومعها »بلاد« عكار؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان