بعيداً عن الجدل الفقهي الذي شهدته جلسة مجلس النواب، أمس، حول تعديل الدستور لازالة آخر »عقبة« تعترض وصول العماد اميل لحود إلى رئاسة الجمهورية، فان وقوعها في 13 تشرين الأول أضاف إلى »الحدث« قيمة رمزية،
هل نسي أحد من اللبنانيين الموعد المحفور في وجدان أطفالهم لانهاء »التمرد« الذي كان يقوده، آنذاك، من اراد تنصيب نفسه، بقوة المدافع »الشرعية« رئيساً على شعب لا يريده، بأكثريته ان لم يكن باجماعه؟!
ما اطول الرحلة من »جنرال الحرب الأهلية« إلى »عماد« السلم الأهلي!
وما أثقل الكلفة لانهاء التمرد على الشرعية حين يقوده المؤتمن على حماية الشرعية، دستورها ومؤسساتها، شعبها المثخن بالجراح ونظامها المبرر نفسه بهامش الحريات التي يتيحها لفئاته جميعاً على تنوعها واختلاف اهوائها ومشاربها إضافة إلى اديانها والطوائف والمذاهب،
وما ابعد المسافة بين كابوس اندثار الدولة، أرضاً وشعباً ومؤسسات، وبين انتعاش الحلم بقيامها مجدداً، أو قيامتها، كما يحب البعض ان يقول!
لم ينسَ أحد بعد صورة ذلك الجنرال المهووس بالسلطة وهو يطارد اللبنانيين بالموت على ابواب المدارس والأفران، في الشوارع والطرقات الداخلية، وينقل خط النار من قلب العاصمة واطراف المناطق ومحيط المدن والبلدات إلى داخل كل بيت، فيحرض الشقيق ليقتل شقيقه، ويستثير جنون الفتية بطبول الشعارات الخرافية لكي يقفزوا على أبيهم فيهينوه ويحقروه!
لم ينسَ أحد بعد ذلك الجنرال وهو يهادن »العدو« وينسى الأرض المحتلة لكي يتفرغ لمقاتلة »الأخ الجار«، إلا إذا تواطأ معه على اللبنانيين فنصبه رئيساً عليهم من خارج الشرعية والنظام ودستوره والاعراف والتقاليد الديموقراطية.
جنرال يقصف مجلس النواب ويسد الطرقات إليه معطلاً انتخاب رئيس جديد للجمهورية يضمن تداول السلطة، بل واستمرار الجمهورية، ويعطل الحياة السياسية ويهدد النواب بالاعتقال إذا ما ذهبوا إلى الحل (في مؤتمر الطائف)، وربما بما هو أقسى إذا ما انتخبوا رئيساً غيره.
جنرال يحول القصر الجمهوري من بيت أو حصن أخير للشرعية إلى عنوان للعصيان، ومركز للتحريض على الجمهورية، ويطلق ريح السموم، احقاداً وبغضاء، لتعصف بالشباب فتأخذهم إلى الخطأ والخطيئة، إلى عبثية انتحارية.
ما اسهل مهمة إميل لحود، وما اهون الطريق: يكفي ان ينهج نهجاً معاكساً على طول الخط للنهج القاتل الذي اعتمده »جنرال« التمرد على الصح!
.. ولعل التزكية العظمى التي اكسبت إميل لحود كل هذا التعاطف الشعبي الذي سبق الاجراءات الشكلية للانتخاب، انه قد قدم نفسه إلى اللبنانيين في صورة النقيض تماماً »لسلفه« قائد الجيش السابق!
ميشال عون أخرج الجيش من حضن شعبه ونقله إلى مواجهته بالمدافع، وإميل لحود أعاد الجيش إلى موقعه الطبيعي في حضن شعبه، ونقل المدافع إلى حيث يجب ان تكون، في مواجهة العدو محتل الأرض،
ميشال عون احتل القصر الجمهوري بقوة الحراب حتى اخرجته الحراب،
وإميل لحود يرفعه الناس الآن إلى القصر الجمهوري، على اكتافهم، بسبب ما انجز، وبعقلهم قبل عواطفهم، وبوعيهم لمصالحهم وليس بالانجرار وراء غرائزهم.
ميشال عون رفض مبدأ الانتخاب، وعطل كل محاولة لاستبقاء الديموقراطية ولو رمزياً، وإميل لحود تولى حراسة صناديق الاقتراع في كل انتخابات، فلم يصادرها ولم يحطمها ولم يزور ببنادق جنوده الاصوات فيها،
»جنرال« حول الجيش إلى ميليشيا طائفية، »عماد« حول ميليشيات الطوائف إلى جنود في جيش للوطن،
جنرال اتى بالجيش فاحتل به المدينة وبعض المناطق والكثير من الارادات والعواطف، و»عماد« اخذ الجيش لمواجهة الاحتلال، فساند المقاومة الوطنية الباسلة وحمى ظهرها ووطد رابطة الدم مع رفيق سلاحه وشريكه في مصيره: الجيش السوري.
جنرال طرد اللبنانيين من وطنهم فشردهم في أربع رياح الأرض، و»عماد« اعاد إليهم الثقة بوطنهم، بدولتهم، فعادوا إليه، ليستعيدوا مواطنيتهم وليعيدوا إليه جنى العمر والأمل بنهوض حقيقي.
ومرة اخرى: لقد اختار اللبنانيون إميل لحود لصفاته »المدنية« التي تأكدت من خلال فهمه لوظيفة الجيش والتزامه بها، وليس بسبب بزته العسكرية مفترضا انها امتياز له على المدنيين،
اختاروه لانه اكد ايمانه بالدولة ومؤسساتها الديموقراطية، ولم يدخل إلى ساحة اللعبة السياسية مبتزاً أو مساوماً، قامعاً أو محازباً، مستقوياً بمدافعه أو ببنادق جنوده.
واختيار لحود يعني، في جملة ما يعنيه، اعادة الاعتبار إلى الجيش، الذي كانت سياسات الطوائف قد وضعته في مواجهة شعبه فضيعته.
وإميل لحود الذي سيدخل القصر الجمهوري بعد ايام لن يكون »جنرالاً«، ولن يأتي بالجيش إلى سدة السلطة،
سيكون »عسكرياً« نجح في الامتحان الديموقراطي فصار رئيساً، بينما »العسكري« الذي حارب الديموقراطية دمر الدولة والرئاسة وصار طريد العدالة وطريد ضحاياه الذين لا يقعون تحت حصر، وأبرزهم طائفته.
غداً، سيكون إميل لحود »العسكري السابق« رئيساً في النظام البرلماني الديموقراطي، وليس قائداً للثورة وصل بالبلاغ الرقم واحد.
لكن الناس ينتظرون منه ان يكمل ما قصر فيه او عجز عنه »الجنرال الأبيض« فؤاد شهاب: دولة المؤسسات، لا دولة الطوائف، ولا دولة الحرب الاهلية، ولا الدولة المتعددة رؤوس السلطة فيها والقادرة على افتراس الدستور والقانون والديموقراطية ولقمة المواطن وسائر حقوقه الطبيعية!.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان